
نخصّص حديثنا هنا للتطرّق إلى العمل في سبيل المعاش؛ لأنّ العمل هو شرط لاستمرار الحياة وسعادة الإنسان، والأمّة التي لا تعمل، هي أمّة فاشلة، ومحكومة بالتخلّف وبالسّقوط في مجال التنافس الحضاري، وستبقى عالة على الآخرين. والحقيقة أنّ العمل ليس خياراً من خيارات الأمّة، بل هو ضرورة لا مفرّ من الأخذ بها، وواجب من واجباتها التي لا يجوز لها التقاعس في أدائها.
الإسلام ومحاربة الكسل
وإدراكاً منه لأهميّة العمل في تقدّم الأمم، فقد حثّ الإسلام عليه، وشنّ حملة على الكسل والتكاسل والبطالة والدَّعة، وكان النبيّ(ص) يبغض للشابّ أن يكون عاطلاً من العمل، بحيث لا حرفة له ولا صنعة، ففي الحديث عن ابن عباس: “كان رسول الله(ص) إذا نظر إلى الرجل فأعجبه قال: هل له حرفة؟ فإن قالوا: لا، قال: سقط من عيني، قيل: وكيف ذاك يا رسول الله(ص)؟ قال: لأنَّ المؤمن إذا لم يكن له حرفة، يعيش بدينه”[1]، أي إنّه يحوِّل دينه إلى دكّان للإتجار به، وما قاله النبيّ(ص) نراه رأي العين، فالذين يتّجرون باسم الدّين والطبّ الروحاني والتنجيم وقراءة الفنجان… هم مجموعة من الفاشلين في الحياة العاطلين من العمل، وفي الحديث عن الإمام الباقر(ع): “الكسل يضرّ بالدّين والدّنيا”[2].
أيها الشباب.. ينبغي أن يكون واضحاً أنّ السعادة لا تنال بالأماني، بل بالكدّ والعمل القائم على التخطيط الجادّ والهادف. إنّ الكسل والتراخي وتضييع العمر باللّهو والعبث، هو خيرُ وصفة للتخلف والفقر، عن عليّ(ع): “هيهات من نيل السّعادة، السّكون إلى الهوينا والبطالة”[3]، وعنه(ع): “إنّ الأشياء لما ازدوجت، ازدوج الكسل والعجز، فنتج بينهما الفقر”[4].
ومن الطريف ما قرأته في بعض الروايات، من أنّ الإمام الصادق(ع) كان يشكو من الكسل المستشري في زمانه، فيقول: “لا تكسلوا في طلب معايشكم، فإنّ آباءنا كانوا يركضون فيها ويطلبونها”[5]، ولست أدري ماذا يقول مولانا الإمام الصّادق(ع) في أهل زماننا، الّذين زحف إليهم الكسل، فتراخوا ووهنوا، وتسلّل إليهم الترف واللّهو والدعة، فهانوا وذلّوا؟!
لا منافاة بين العمل للدّنيا والعمل للآخرة
والأمر الأخطر من مجرّد استشراء الكسل لدى قطاعات واسعة من أبناء الأمّة، ولا سيّما الشباب، هو وجود خلل في النظرة إلى مفهوم العمل نفسه، وحصول تشوّه في المفهوم الديني إزاءه. ويتمثّل هذا التشوّه في إيجاد خصومة مفتعلة بين الزهد والعمل، أو بين الدّنيا والآخرة، حيث يتخيّل البعض أنَّ الانغماس في العمل ينافي الزّهد والورع. وهذه النظرة هي نظرة خاطئة بالتأكيد، فإنَّ للإسلام نظرةً متوازنةً إلى الدنيا والآخرة: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص: ٧٧]، وفي الحديث المتقدِّم عن الإمام الحسن(ع) أنّه قال: “اعمل لدنياك كأنَّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنَّك تموت غداً”.
بل إنّ الإسلام اعتبر أنّ العمل في سبيل المعاش ورفع مستوى الأمّة والتخلّص من مشكلة الفقر، هو من الواجبات الكفائية[6]، وقد يدخل في نطاق العبادات التي يؤجر الإنسان عليها، ولذا ترى أنَّ الإمام الصادق(ع) – على ما جاء في الرواية – سأل عن رجل أين هو؟ فقيل له: أصابته الحاجة، قال: “فماذا يصنع اليوم؟”، قالوا: في البيت يعبد ربَّه، قال: “فمن أين قُوتُه؟”، قيل: من عند بعض إخوانه، فقال(ع): “والله، لَلّذي يقوته أشدُّ عبادةً منه”[7].
عندما يتسوّل الشباب!
وثمّة مفهوم إسلاميّ آخر طاله التشوّه، وهو مفهوم التوكّل، حيث غدا مساوياً لمفهوم التّواكل، فإنك عندما تطالب البعض وتقول له: لِمَ لا تعمل؟ يجيبك: “أنا متوكّل على الله”، أو “الله بيرزق”، وهو في الحقيقة يبرّر كسله وقعوده عن العمل بهذه الكلمات التي هي كلمات حق يراد بها باطل. إنّ جملة: “الله بيرزق” ليست شعاراً للكسالى، وإنّما هي شعار يرفعه الإنسان وهو في ميدان العمل، يسير في مناكب الأرض ويخوض غمارها. وهكذا، فإنّ التوكّل على الله – أيضاً – لا يعني الجلوس في البيوت وانتظار الرزق، ولا يعني أبداً مدّ اليد إلى الآخرين بدلاً من الانطلاق في ميادين الحياة والتفتيش عن الرّزق الحلال.
ألا ترون اليوم أنّ ثمة حالة غريبة في مجتمعاتنا، وهي أنَّ بعض الشّباب أصبح يمدّ يده للتسوّل، إنّنا نفهم (ولا نبرّر) أن يمدَّ عجوزٌ أو أرملةٌ أو محتاج يدَه إلى الآخرين مستجدياً، أمّا أن ترى شابّاً يمدّ يده إلى الآخرين ويمتهن مهنة التسوّل، فتلك مصيبة كبيرة، وحالة مَرضِيّة لا بدّ من معالجتها، ومن طرق المعالجة، أن يعمل المجتمع وتعمل الدولة على ترشيد هؤلاء وتأهيلهم ودراسة الظروف التي دفعتهم إلى ذلك.
وفي هذا السياق، فإنَّ الإسلام قد منع إعطاء الزكاة لمن يمتلك القوّة البدنيّة ويستطيع العمل، لكنّه يكسل عنه ويلجأ إلى التسوّل، ففي الحديث عن رسول الله(ص): “لا تَحِلّ الصدقة لغنيّ ولا لذي مِرّةٍ (قويّ في بدنه) سَوِيّ”[8]، وسرّ هذا المنع يكمن في أنَّ إعطاءه مرّةً تلو الأخرى، يجعله يمتهن التسوّل وبذل ماء الوجه للآخرين، ويعرّض نفسه للمهانة والمذلة. ورد في الحديث عن الإمام الصّادق(ع): “إيّاكم وسؤالَ النّاس، فإنّه ذلٌ في الدّنيا، وفقر تعجلونه، وحساب طويل يوم القيامة”[9].
ويحكى أنَّ الأصمعي مرَّ على كنّاسٍ في البصرة يكنس كنيفاً (بيت الخلاء)، وهو يتغنّى ببعض الأشعار، ومن جملتها قوله:
وأُكرم نفسي إنّني إن أهنته وحقّك لم تكرم على أحد بعدي
قال الأصمعي: فقلت له: والله ما يكون من الهوان شيء أكثر ممّا بذلتها له (أي بذلت نفسك له)، فبأيّ شيء أكرمتَها؟ فقال: بلى والله، إنّ من الهوان لشرّاً ممّا أنا فيه، فقلت: وما هو؟ فقال: الحاجة إليك وإلى أمثالك من النّاس، فانصرفتُ (يقول الأصمعي) عنه وأنا أخزى النّاس”[10].
بالعمل نواجه سياسة الإفقار
إنَّ ما نواجهه اليوم من سياسةٍ تعمل على إفقار شعوبنا، وتمزيق أمَّتنا ودفعها إلى التّناحر والتقاتل والاحتراب، هي سياسة ظالمة لم يسبق لها مثيل، وهي تهدف إلى تفريغ أمّتنا من الطاقات الشابّة واستدراجها، وكذلك استدراج كلّ العقول المبدعة من أبناء هذه الأمّة، إلى بلاد الغرب. إنّ أمتنا ليست فقيرة، بل إنّ ما تملكه من الثروات والطاقات يجعلها من أغنى الأمم، لكنّ السياسة الاستكبارية مستعينة بأنظمة استبداديّة جائرة، اعتمدت خطّة تهدف إلى إفقار الشعوب الإسلامية، وإشغالها بلقمة العيش، حتى لا تترك لها مجالاً للتفكير في كيفية النهوض والخروج من القمقم.
وأعتقد أنّ الخطوة الأولى التي يجب اتخاذها في وجه هذه السياسة الإفقاريّة، تتمثَّل – إضافةً إلى الوقوف في وجه المستكبرين والظّالمين – بالتوجّه – شيباً وشبّاناً – إلى ميدان العمل بشتّى مجالاته وأنواعه، فبذلك نخلق فرصاً جديدة للعاطلين من العمل، ونواجه سياسة الإفقار التي تريد إشغالنا بلقمة العيش كما قلت، والّتي ترمي أيضاً إلى أن تنشر في أوساطنا الجريمة والفاحشة، فإنّ أقرب وسيلة لنشر الجرائم وتفكيك المجتمعات وتدميرها خلقياً واجتماعياً، هي في إفقار هذه المجتمعات.
وبالعمل نواجه سياسة الاستغلال
وليس خافياً، أنَّ السياسة التي يعتمدها المستبدّون والمتسلّطون، تتمثَّل في العمل على استغلال حاجة الشّباب إلى المال والوظائف والعيش الكريم، فيسعون إلى ابتزازهم واستغلال حاجاتهم، ليحوّلوهم إلى تابعين وأزلام يستجدون وظيفةً أو مالاً.
وما تقدَّم من استغلال حاجة الشّباب إلى العمل والوظيفة لإدخالهم في أتون صراعات مذهبيّة، ليس هو الاستغلال الوحيد الذي يتعرَّض له الشباب، فهناك استغلال هو من أسوأ أنواع الاستغلال وأبشعها، ألا وهو استغلال الشباب – وتحديداً الفتيات – في التجارة الجنسيّة، حيث يعمل البعض على استغلال حاجة الفتاة إلى العمل وجني المال، فيضغط عليها لتتنازل عن أخلاقها وكرامتها وشرفها. وقد تقع بعض البنات فريسة هذا الابتزاز، نتيجة فقرها وحاجتها، وهنا تكون مسؤوليّة الأمّة والمجتمع والدّولة كبيرةً جداً وعلى أكثر من صعيد، وذلك بالسّعي إلى تحصين المجتمع أخلاقيّاً، والعمل على سدّ الثّغرات وتوفير فرص العمل، بما يؤمِّن لقمة العيش الكريم لأبناء هذا المجتمع، وفوق ذلك كلِّه، لا بدّ من إعلان حربٍ ضروس على هؤلاء الفاسدين والمفسدين الّذين يشتغلون في سوق الاتجار الجنسي الرّخيص، وهم في الغالب يتحرّكون تحت عناوين مخادعة وبرّاقة.
وختاماً، فإنّي أتوجّه هنا بكلمة مختصرة إلى كلّ فتاة مسلمة: أختي الكريمة، ابنتي العزيزة، إنّ شرفكِ هو عزّكِ وكرامتكِ وهو سرّ إنسانيّتكِ، فلا تبيعي عفّتك في سوق النخاسة، ولا تسمحي لأحد بأن يحوّلك إلى سلعة رخيصة، كما يُراد لك، كوني إنسانة ينحني العالم أمام عفّتك وكرامتك.
إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.
الهوامش:
[1] رواه في بحار الأنوار، ج 100 ص 9، وفي مستدرك الوسائل، ج 13 ص 11، نقلاً عن جامع الأخبار.
[2] تحف العقول ص 300.
[3]عيون الحكم والمواعظ، ص 512
[4]الكافي، ج5، ص86
[5]من لا يحضره الفقيه، ج3، ص 157.
[6]الواجبات في الشريعة الإسلامية إمّا عينية، تجب على كلّ فرد من المكلفين (الأعيان) كالصلاة والصوم والحج.. وإمّا كفائية، تجب على الأمة، فإذا قام بها البعض سقط التكليف عن الباقي، وإلا أثم الجميع.
[7] الكافي ج 5 ص 78، وتهذيب الأحكام ج 6 ص 324.
[8]سنن الدارمي، ج1 ص386، وهذا المضمون مروي عن الإمام الباقر(ع)، حيث قال: – بحسب الرواية -: “إنّ الصّدقة لا تحلّ لمحترف ولا لذي مرّة سويّ قويّ، فتنزّهوا عنها”. انظر: الكافي، ج3، ص560. والمرّة: الشدّة والقوّة، والسّويّ: هو الصّحيح الأعضاء.
[9] الكافي، ج4، ص20. ومن لا يحضره الفقيه، ج2، ص70.
[10]الأغاني، لأبي الفرج الأصفهاني، ج1، ص319.
Leave a Reply