
يعتبر البحث في (الجهاد) من أكثر المسائل حضوراً في عصرنا الراهن، إذ دار جدال عميق بين من اعتبروا أن أحكامه تُشرع للقتل والاعتداء على غير المسلمين، وبين من رأوا فيها تشريعات يراد منها حماية الإسلام من الاعتداءات التي تواجهه، أو يغلب احتمال مواجهتها له، ومن وجهة نظر هؤلاء يمثل الجهاد حرباً عادلةً يضطر المسلمون لخوضها دفاعاً عن أنفسهم ودينهم، ومن ثَم تبرز أهمية دراسة مفهوم (الحرب العادلة)، والمعايير التي تحددها من وجهة نظر الشريعة الإسلامية.
وممن خاض في هذا الموضوع الباحث جون كلسي أستاذ أخلاقيات الدين في جامعة فلوريدا – الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال كتابه (مسألة الحرب العادلة في الإسلام)، الذي تناول فيه هذا الموضوع بحسب ما قررته الشريعة الإسلامية، وبناءً لما تطرحه الحركات الجهادية من مبررات، وبحث في مدى تطابق أطروحاتهم مع المعايير التي تقررها الشريعة للحرب العادلة.
وقد عرض المؤلف في المقدمة لموقف العالم الغربي عموماً والولايات المتحدة خصوصاً من الإسلام بعد أحداث 11 أيلول 2001م، ذلك إن الحرب بين الدول الديمقراطية التي تكرس نفسها من أجل الحرية وبين (القوى المعادية للديمقراطية) هي (حرب عقائدية)، وإن لم يُشر بالاسم إلى (العقيدة البغيضة) لهذه القوى إلا في آب 2006م عندما تحدث الرئيس بوش عمّن أسماهم (الفاشيين الإسلاميين). فالذين قاموا بالهجوم على سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا، وعلى حاملة الطائرات يو أس أس كول، وعلى القوات الأمريكية في قاعدة الخُبر في السعودية، وعلى مركز التجارة العالمي والبنتاغون، وعلى وسائل النقل العام في مدريد 2004م ولندن 2005م – يرتبطون جميعاً بالانتماء إلى الإسلام.
ومن هنا يرى العديد من الأمريكيين والأوروبيين في (الحرب الدينية) توصيفاً أفضل من (الحرب العقائدية)، وبخاصة المسيحيون الأنجيليون الذين يصنفون تلك الأحداث في خانة الصدام بين الحضارتين المسيحية والإسلامية، فيصورون الصراع بوصفه نزاعاً بين أبناء النور وأبناء الظلمات، بين حقيقة الله وهداه وضلالة الشيطان.
وعندما صرح الرئيس بوش أن (الإسلام يعني السلام) وأن الذين ينفذون الهجمات إنما (خطفوا الإسلام) انبرى عدد من الإنجليين لإعلان خطئه، فالإسلام بالنسبة لهم ديانة زائفة مضللة، محتومة الارتباط بالشر، وبخاصة عندما تتخذ لها من العنف الأعمى شكلاً لها فتضرب من دون تمييز. واحتجوا لإثبات صحة آرائهم بتصريحات زعيم القاعدة أسامة بن لادن ومعاونيه الذين أظهروا أن هجمات 11 أيلول لم تكن انحرافاً عن نهج الإسلام، بل إن الذين قاموا بها هم الأتباع الحقيقيون لمحمد (ص).
ويحدد المؤلف أحد مقاصد الكتاب في إعطاء توصيف دقيق للمنظور الديني للقاعدة وغيرها من المجموعات الناشطة، متمسكاً بما يصدر عن قادة القاعدة من بيانات وتصريحات وخطابات، وأن حقيقتها تكمن في اعتبارها محاولات تهدف إلى جعل ممارساتهم الجهادية شرعية.
غير أن ثمة أسباباً وجيهة تدفع من يحاولون الفصل بين (الإسلام الحق) وتصريحات زعماء القاعدة، إذ دار جدل بين المسلمين حول الأخلاقيات السياسية. فالإسلام سنة حية يتبعها المسلمون في سعيهم للربط بين تراث السابقين وتحديات الحياة المعاصرة، آملين التصرف بطرق متناغمة مع هُدى الله، ومن شأن منطق الشريعة(1) أن يشكل واحدة من الصيغ التي يعتمدها المسلمون في مسعاهم هذا.
والكتاب يتطلع إلى وصف كيفية ممارسة منطق الشريعة بين المسلمين المعاصرين، وبخاصة بالنسبة إلى النقاش حول القوة المسلحة والأخلاقيات السياسية المستوحاة من الحجج والحيثيات التي يسوقها الناشطون الإسلاميون، وهذا النقاش يقتضي ضمناً الاحتكام إلى السنة، بما تشتمل عليه من شواهد تاريخية، فالاختلافات بين الأفكار السياسية التي يطرحها أولئك الناشطون ومخالفوهم لن تحسم عبر الدعوة إلى الاحتكام لمبادئ المساواة واحترام استقلالية الأشخاص، وإنما عن طريق النصوص المرتبطة بظروف بدايات الإسلام والتطورات اللاحقة، كما في أوامر النبي محمد (ص) لجند الإسلام، أو الرد العسكري للخليفة الأول أبي بكر على ردة بعض القبائل بعد وفاة النبي (ص) عام 632م.
في الأصول
يحاول المؤلف في الفصل الأول أن يحدد ماهية (الإسلام) في ضوء السياقات الدينية والتاريخية للوصول إلى مفهوم مرجعي للإسلام في بعده السياسي، ومن ثَم فإنه يتجه للبحث في معنى الإسلام، وفي سيرة النبي محمد (ص) التي يحاول المسلمون استلهامها في حياتهم، وفي الديانة الفطرية.
فالمعنى الحرفي للإسلام هو الاستسلام والانقياد والطاعة، وهذا يدل على وجوب الانقياد لأمر الله ونهيه بلا اعتراض، ولذلك فإن الإسلام ينطبق على السعي إلى تنظيم الحياة بطرق تجسد التسليم بوجود الله والاعتراف به بوصفه رب العالمين، فالمسلم هو من يتبع هدى الله، ويلتزم بالسعي إلى تنظيم حياته بطرق تعبر عن اعترافه بسلطان الله. وإذن فالإسلام طريقة عيش ومنهج حياة.
ولأجل معرفة جوهر الانقياد لمشيئة الله يعاد طرح السؤال: ما الإسلام؟ وفي سياق الجواب يكتفي المؤلف بذكر ثلاثة تعريفات للإسلام:
أولاً: الإسلام حركة دينية تبدأ بحياة وأعمال محمد (ص) في شبه الجزيرة العربية في القرن السادس للميلاد.
ثانياً: الإسلام هو الديانة الفطرية للإنسانية.
ثالثاً: الإسلام هو القوة الكامنة وراء حضارة عالمية عظيمة.
والملاحظ أن التعريفات الثلاثة أعلاه لا تمثل تعريفاً دقيقاً للإسلام، لأنها مجرد صفات وآثار لا تكشف عن حقيقة الإسلام. فالأول يتقوم بالإشارة إلى نشوء الإسلام على يد النبي محمد (ص) وبداياته، أي إنه يركز على البحث في تاريخ الإسلام. وأما الثاني فيتمحور حول الأصل الذي ينبثق منه الدين الإسلامي، باعتبار أنه – كسائر الأديان السماوية – متوافق مع الفطرة الإنسانية التي تعترف بوجود إله لهذا الكون، فهو يدرس الجانب النفسي للدين. في حين أن الثالث يرتكز على الأثر الذي يتركه الإسلام في نفوس المؤمنين به، بحيث أنه يصبح محركاً لهم نحو نشره وإرساء أسس الدولة على ضوئه.
وبالمقابل فإنه لم يشر إلى التعريف الذي يعبر أكثر من غيره عن حقيقة الإسلام، حيث يعرف بأنه (الأعمال الظاهرة من التلفظ بكلمتي الشهادة والإتيان بالواجبات والانتهاء عن المحرمات)(2).
وبخصوص سيرة النبي محمد (ص) فإن المصطلحات التي يستخدمها كتاب السيرة توضح أننا نتعامل مع (تاريخ مقدس)، لأنهم يروونها بطرق مألوفة في تاريخ الأديان، فهي كالأدبيات المؤسسة لليهودية والمسيحية لا تخضع لضوابط (التاريخ العلمي) المعمول به في الدراسات الأكاديمية، إذ أنها سيّر بيانية تهدف إلى بناء الإيمان. ولذلك فلا سبب يجيز الشك بمختصرات القصص المرتبطة بمحمد (ص) والمسلمين الأوائل، كما أنه لا سبب للارتياب بالمرتكزات التاريخية للأدبيات الأنجيلية والتلمودية.
وقد كان قصد كتاب السيرة من سرد القصص عن النبي (ص) وصحابته يتخطى التاريخ العلمي ليجيب على الأسئلة الدينية التي تتخطى السؤال عن كيفية تجلية الأحداث؟ إلى السبب في تجليها؟
ويُجيب كتاب السيرة عن ذلك بأن ولادة النبي (ص) كانت بهدف إتمام ما كتبه الله للإنسانية من إرسال نبي في آخر الزمان إلى القبائل العربية، ليكمل ما بدأه الأنبياء السابقون.
ويؤخذ على المؤلف ادعاؤه عدم خضوع نصوص سيرة النبي محمد (ص) للضوابط العلمية، وأنه لا يوجد سبب للشك فيها، رغم أن ثمة جدلاً كبيراً حول مدى صحة الكثير من تلك النصوص، بسبب اختلاف مصادر السيرة في إثبات بعض الوقائع أو نفيها، ومن ذلك ما أورده المؤلف من سفر النبي (ص) مع عمه أبي طالب إلى الشام ولقائه الراهب بحيرى، وما روي عن كيفية بدء نزول الوحي عليه، إذ تخضع أغلب نصوص السيرة لمعايير علم الحديث، وعدم تطابق هذه المعايير مع المعايير الأكاديمية للدراسات التاريخية لا يعني أنها معايير غير علمية، لأن لكل علم معاييره الخاصة.
على أن هناك فرقاً بين نصوص السيرة والأدبيات الأنجيلية والتلمودية في طريقة نقلها، إذ نقلت نصوص السيرة في غالبها بأسلوب الرواية عن الشيوخ وهؤلاء عن شيوخهم وصولاً إلى المعاصرين لوقائع السيرة، ولهذا الأسلوب شروطه الخاصة التي تجري دراستها في علم الحديث، ولا أثر لهذا الأسلوب في تدوين النصوص المرتبطة بالأناجيل أو التلمود.
وعليه فإن السيرة النبوية ليست تاريخاً مقدساً، وإنما هي نصوص تؤرخ لحياة النبي (ص).
ويتابع المؤلف ما أورده كتاب السيرة في مؤلفاتهم بشكل مختصر، فيشير إلى انتهاء نسب النبي (ص) إلى إبراهيم (ع)، ومحاولة تُبع ملك اليمن غزو يثرب وعدوله عن ذلك، بعد أن علم بأنها مهاجر نبي سيظهر في قريش، وأن النبي محمد (ص) ولد في العام الذي حاول فيه أبرهة الحبشي هدم الكعبة، وفشله في ذلك، بعد مهاجمة الطيور الأبابيل لجيشه.
ثم أشار إلى الأوضاع السياسية والاجتماعية والدينية للعرب في شبه الجزيرة قبل نشوء الإسلام في القرن السادس ومستهل القرن السابع للميلاد، إذ تقع هذه المنطقة بين ثلاث قوى كبرى، فالبيزنطيون في الشمال والساسانيون في الشرق والأحباش في الجنوب الغربي. وكان التنظيم الاجتماعي في تلك المنطقة يرتكز على النظام القبلي، حيث تمثل القبائل وحدات عائلية ممتدة تربط أفرادها علاقة الدم، وقد درج بعض القبائل على الاستقرار في مكان واحد، واعتمد البعض الآخر حياة الارتحال والتنقل في البوادي. وكانت مكة مركزاً دينياً للقبائل، فقد كان لكل قبيلة وثن لمعبودها في الكعبة، التي مثلت هيكلاً لجميع تلك الآلهة، وإن كان لبعض تلك الأوثان انتشار خارج حدود القبيلة، كما في اللات والعزى ومناة التي كانت تحظى بالقداسة لدى عامة العرب، إذ اعتبروها وسائط تقربهم إلى الله.
ويستفيد كتاب السيرة من ذلك لإثبات أن الله أعدَّ شبه الجزيرة لقدوم النبي (ص)، فالغزو عام الفيل، وتأكيد قريش أن الكعبة بيت للعبادة لكل العرب، ليست تطورات عشوائية، بل أحداث كتبها الله قبل ولادة النبي محمد (ص) بما صاحب ذلك من علامات.
وقد واجهت الحياة محمداً (ص) بتحديات كثيرة، كموت أبيه قبل ولادته، ووفاة أمه بعد ذلك، وموت جده قبل بلوغه الثامنة، ما جعله صبياً يتيماً يكفله عمه أبو طالب، وبعد أن أصبح رجلاً ذا مروءة في قومه، متصفاً بالصدق والأمانة، متجنباً الفواحش والأدناس، وتزوج من خديجة بنت خويلد شرع في الاعتكاف في غار حراء، وفي إحدى المرات التي كان فيها معتكفاً بُعث بالنبوة. وهنا ينقل المؤلف ما روي من كيفية بدء الوحي، وحالة اليأس التي كان النبي (ص) يمر بها، بسبب عدم إدراكه لحقيقة ما حصل له، حتى أتاه الوحي ثانية مكلفاً له بتبليغ الرسالة، ودور خديجة وابن عمها ورقة بن نوفل في طمأنته وإقناعه بأن الذي يأتيه هو الوحي، رغم الملاحظات التي يسجلها الباحثون على هذه الرواية(3 ).
وقد فهم القرشيون من دعوات النبي (ص) أنه يُخطئ آبائهم وأجدادهم الذين شكلت مآثرهم إرثاً وهوية لقبائلهم، ومثل هذه الخصائص شائعة في تاريخ الأديان، حيث تتم مهاجمة أنماط الحياة القائمة التي تختزن شرعية مقدسة تكرسها، ومن هنا جاءت دعوة النبي (ص) لأبناء عشيرته بالتخلي عن الارتباط بالأسلاف، وإلى تشكيل أمة مؤمنة بالله الواحد الأحد.
وما ينقل في سيرته (ص) يعكس ما أبداه من مثابرة مع نفر من أتباعه في مواجهة مشركي قريش منهم، الذي تطور إلى ممارسة العنف ضدهم بمساندة أشراف قريش، وصولاً إلى مقاطعتهم. ومع ذلك كله كان النبي (ص) يوصي المسلمين بالصبر، وعدم الدخول في قتال مع المشركين.
ولكن الحال تغير بعد وضع النبي (ص) أسس الدولة بهجرته وأتباعه إلى يثرب عام 622م، التي مهد لها لقاؤه بقبائلها وقبولهم بالإسلام، ثم تكرر لقاؤهم به ودعوه إلى مدينتهم، (وعندما تمت الخطوة الأخيرة، قطع ممثلوا قبائل المدينة على أنفسهم عهداً وثّقهم بمحمد (ص)، إذ أقسموا أن يقدموا له الدعم، وأن يحترموا ويلتزموا بأوامره، وعلاوة على ذلك أن يقاتلوا بمعيته المكيين. والسؤال هنا: لماذا التشديد على القتال؟ ويأتي الجواب على صفحات كَتبة السيرة النبوية الذين أفادوا بما أنزله الله في القرآن من أمر بذلك، {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّـهـُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}) (ص38).
والذي يلاحظ على ذلك أنه لم ترد في مصادر السيرة أو التاريخ إشارة إلى مقاتلة المكيين في لقاء النبي (ص) بممثلي القبائل المدنية، إذ تشير المصادر إلى أن النبي (ص) طلب منهم أن يمنعوه مما يمنعون منه نسائهم وأبنائهم، أي أن يحمونه في حركة دعوته، فأجابوه إلى ذلك، بل ألمح بعضهم إلى احتمال رجوع النبي (ص) عنهم إلى قومه المكيين بعد أن يظهره الله، فقد جاء في سيرة ابن هشام نقلاً عن ابن إسحاق: (فتكلم رسول الله (ص)، فتلا القرآن، ودعا الله، ورغب في الإسلام، ثم قال: “أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناكم”. قال: فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق نبياً، لنمنعنك مما نمنع منه أُزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن أبناء الحروب وأهل الحلقة، ورثناها كابراً عن كابر. قال: فاعترض القول – والبراء يكلم رسول الله (ص) – أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها – يعني اليهود – فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسم رسول الله (ص)، ثم قال: “بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم”)(4 ).
كما إن الاستشهاد بالآية على ذلك في غير محله، لأن الآية نزلت قبيل معركة بدر عام 623 هـ، أي بعد عام من الهجرة، وليس إبانها.
وبعد ذلك يعرض المؤلف لما ذكره أرباب السير من مقاربة النبي (ص) للعلاقات القبلية في المدينة فيما يُعده انتقالاً ناحية السياسة، حيث نظم النبي (ص) العلاقات بين المسلمين واليهود بوثيقة عرفت بـ (دستور المدينة) التي ساوت بينهما في الحقوق، وحفظت لكل جماعة استقلالها، على أن يساعد اليهود المسلمين في القتال، ولكن اليهود انتهكوا المعاهدة بتقديم العون للمكيين في حربهم ضد النبي (ص)، فعوقبوا بالطرد أو قتل الرجال واستعباد النساء والأولاد.
ويظهر من حملة النبي (ص) ضد المكيين ليس الطابع العسكري فحسب، بل الدور الدبلوماسي الذي قام به لتعزيز علاقاته مع القبائل عن طريق المعاهدات التي تنص على الحماية المتبادلة، وأخيراً ختم النبي حياته بإعلانه أنه: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب).
وترتكز رسالة النبي (ص) على واقع أنه كان يشيع اعتناق الديانة الطبيعية الفطرية للإنسانية، (فالمسلمون يقولون إن كل طفل ذكراً كان أم أنثى يولد مسلماً وأن أهله هم الذين يجعلون منه يهودياً أو نصرانياً أو زرادشتياً أو واحداً من أمة النبي (ص)) (ص41).
ويرى المؤلف أنه يمكن الرجوع إلى القرآن لتوضيح ذلك، كما في: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}، إذ إن مضمونهما جلي بما يكفي ليعفي من التفسير، إذ تدلان على أن كل الكائنات البشرية مسؤولة عن الإيمان بإله واحد، أي أن تتدين بالإسلام وتمارس فرائضه، وهي لا تستطيع التهرب من هذه المسؤولية بالاعتماد على تقاليدها وأعرافها المتوارثة. ويستشهد لهذه الفكرة بعدد آخر من الآيات القرآنية.
وقد وقع المؤلف في خطأ عند نقله لمضمون الحديث عن (صحيح مسلم)، في حين أن الحديث ورد في المصدر بهذه الصيغة: قال رسول الله (ص): (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه)( 5)، ولم يرد فيه أو في الأحاديث الموافقة له في معناه التعبير بـ (إن كل طفل يولد مسلماً)، ولا (أو واحداً من أمة النبي (ص)) كما نقله المؤلف عنه.
كما إن المؤلف جزم بدلالة هاتين الآيتين على الإيمان بعقيدة التوحيد والتدين بالإسلام، مع أنهما صريحتان في الدلالة على أن الله أشهد الذرية من بني آدم على ربوبيته ووحدانيته، وليست فيهما إشارة إلى التدين بالإسلام.
وربما يكون السبب في ذلك هو خلط المؤلف بين الإسلام بما هو تعبير عن خط التوحيد العام المركوز في فطرة الإنسان، وبين الإسلام بمعناه الاصطلاحي الذي هو اسم للدين الذي بُعث به النبي محمد (ص)، والذي هو مصداق لإسلام الفطرة الذي يشمل الحنيفية واليهودية والنصرانية.
وبعد وفاة النبي (ص) حصل خلاف بين أتباعه، ولكن المؤمنين به اتفقوا على ضرورة المضي في حركته، وأن استمرارية دور النبي (ص) من خلال الخلافة هي مسؤولية الصحابة، وأن على خلفائه أن يستمروا في أداء دورهم القاضي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وبعد تمكن أبي بكر من القضاء على المرتدين ومن رفضوا دفع الزكاة إليه فيما سمي بـ (حروب الردة)، وتحقق التكافل الديني في شبه جزيرة العرب توجه إلى نشر الإسلام في بقية العالم من خلال الفتوحات التي وسعت رقعة الإسلام بسرعة. وبحلول وفاة عمر كانت الجيوش الإسلامية قد سيطرت على مصر والشام ومعظم العراق، وخلال خلافة عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب دخل ما تبقى من العراق ومعظم إيران في الدولة الإسلامية دون فتح. وفي القرون اللاحقة توسع الإسلام ليصل إلى شرق أفريقيا وشبه القارة الهندية وتركيا وأجزاء من أوروبا، وإلى أطراف الصين وأندونيسيا وجزر الفلبين.
وكان من شأن اتساع نظام الحكم الإسلامي أن زاد من فرص تعايش العديد من البشر بسلام ودرجة من العدالة، ما انعكس انفتاحاً لدى الشعوب التواقة إلى التحرر مكنها من سماع رسالة الإسلام، والإقبال عليها، فالإسلام دين يعطي للشعوب المتحررة حق البقاء على دينهم شريطة أن يرتضوا حماية النظام الإسلامي، ويحترموا بعض خصائصه، وعملية التوسع هذه بحاجة إلى برنامج منتظم لتغيير النظام، يتمثل هذا البرنامج في الجهاد الذي يرمز للجهد الذي يبذله المسلم لتحقيق ذلك.
إن المفهوم الإسلامي الداعي إلى تغيير نظام الحكم في بلد ما يقتضي إزالة الأنظمة الاستبدادية القائمة، وهذا يعني إحلال الحكم بالشريعة التي يجب أن يخضع لها الحاكم والمحكوم محلها، فلابد من توفر عدة صفات في الحاكم ليكون أهلاً للحكم، والذي يجب أن يكون موافقاً للشريعة. وقبال ذلك هناك واجبات على المواطنين في الدولة الإسلامية الالتزام بها، منها: دفع الضرائب، والمساهمة في الجهاد.
ومن هنا نشأ جدل حول شرعية التمرد على الحاكم إن هو ضل الصراط المستقيم، ومن الواضح أن واجب المواطنين يقتضي إطاعة أوامر الحاكم ما دامت أوامره متسقة مع الشريعة.
وإذن فمن خلال ولاية محمد (ص) وتنزيل القرآن خلق الله أمة مكرسة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتؤدي واجبها بالالتزام بالحكم الشرعي، والدعوة إلى الدين الحنيف المتجذر في الفطرة الإنسانية.
وبذلك يظهر أن الزعم بأن الإسلام دين ملؤه الشرور يصدر من رؤية لا تحتكم جيداً إلى التوصيف التاريخي والسوسيولوجي للإسلام. فالإسلام لا يختلف عما تقدمه أديان العالم الأخرى في مفاهيم الألوهية أو الكشف أو النظام السياسي، فهو مبني على مجموعة من الأفكار المتداولة في النصرانية واليهودية، وأن كان هناك عدد من الفوارق المهمة بينها.
في منطق الشريعة وتسويغ أحكامها
يترجم مصطلح الشريعة – عادة – بعبارة (القانون الإسلامي)، ولكن معناه لا يقتصر على ذلك، إذ يدل على (الطريقة)، وبذلك هو يشير إلى الصراط أو السبيل الذي يقود إلى الفوز في الدنيا والآخرة، فالشريعة في معناها المجازي تعبر عن صيغة من السلوك التي تقود من ينتهجها إلى النجاة، فالحياة الصالحة ليست مسألة السلوك بأي طريقة كانت، وإنما السير في الطريق التي يرتضيها الله.
وفي ضوء ذلك فلا غرابة أن يتحرى المسلمون الصواب والباطل منذ بدايات الإسلام، فالقرآن يدعو إلى السلوك السليم، ويحض المؤمنين على الرجوع في كل مسائلهم التي يختلفون فيها إلى الله والنبي (ص). فالإسلام يقاس بالطاعة والانقياد لكل من القرآن وسنة النبي (ص). فظهرت طبقة من المختصين في فهم وتفسير القرآن وأحاديث النبي (ص) يسمون (العلماء) عملت على تحديد حقيقة الشريعة، ولاحقاً ظهرت جماعة من العلمانيين لها قراءتها وفهمها الخاصين لنصوص الشريعة.
وترجع بدايات نشوء تلك الطبقة المتخصصة بدراسة نصوص القرآن والسنة إلى بداية خلافة عثمان الذي ورث عن سلفه النظام الذي اعتمده في إدارة الحكم، حيث توسعت أقاليم الدولة الإسلامية، فظهرت الحاجة إلى معلمين للقرآن في المناطق التي جرى فتحها.
وبعد حصول الفتنة، بسبب اتهام عثمان بالحكم بغير ما أنزل الله، والتي انتهت بمقتله عام 656م، ومبايعة علي بن أبي طالب بالخلافة، الذي سعى إلى تسوية الخلاف حول مقتل سلفه، ثار بعض أقارب عثمان – وبخاصة معاوية بن أبي سفيان حاكم الشام – على علي بدعوى التقصير في معاقبة قتلة عثمان، (وبينما كانت القوى المتعارضة تقترب من بعضها البعض وقد استعدت للنزال شهر رجال معاوية نسخاً من القرآن على حراب رماحهم وتقدموا منشدين: “بيننا وبينكم كتاب الله”. قبل علي التحدي، فعمد إلى إخضاع الخلاف للتحكيم، ومع أنه عُهد بالأمر إلى أفضل من عرف القرآن، إلا أن الحكم فشل في تأمين حل واضح للخلاف) (ص66).
وما ذكره المؤلف يؤشر على اطلاعه المحدود على بعض وقائع التاريخ الإسلامي، إذ وقع في خطأين:
الأول: إن عسكر معاوية رفعوا المصاحف بعد الاستعداد للنزال، وكأن قتالاً لم يقع مع عسكر علي، في حين أن رفع المصاحف تمَّ بعد وقوع المعارك بينهم فعلاً، والتي استمرت لعدة أيام، وسقط فيها عشرات آلاف القتلى، وكان قد سبق من علي أن دعا مناوئيه إلى المصحف قبيل نشوب القتال بينهم فأبوا(6 ).
الثاني: إن المحكمينِ – عمرو بن العاص عن معاوية وأبا موسى الأشعري عن علي – لم يكونا أفضل من عرف القرآن، بل لم يعرف عنهما اهتمام خاص بالقرآن، فضلاً عن أن أبا موسى قد فُرض على علي من قبل أتباعه الذين أجبروه على قبول التحكيم، إذ كان علي يريد عبد الله بن عباس محكماً عنه.
ثم أشار المؤلف إلى أن الجدل بين الفرق الإسلامية حول الصواب والضلال يحتكم إلى القرآن، وهنا يظهر دور طبقة العلماء الذين كانوا مشمولين برعاية الحكام الأمويين، الذين حاولوا استغلال الدين في طرح أنفسهم كحكام يمارسون الحكم بالشريعة، وإن أبقى بعض العلماء على استقلالهم عن السلطة، كما في الحسن البصري الذي توجه بالنقد لبعض المزاعم الأموية، ومنها زعمهم بالشرعية الإلهية لسلطتهم. وكان الأوزاعي أبرز فقهاء الشام في دمشق بصفته مؤسساً لمذهب متميز. وفي المدينة يأتي مالك بن أنس الذي يُنبئ كتابه (الموطأ) عن انكبابٍ على تطوير طريقة في التفكير قائمة على الربط بين القرآن ومغازي النبي (ص) وصحابته، والسنة المتبعة في مكة والمدينة.
وقد ناقش الأئمة الذين استقروا في العراق الطريقة الأنجع للتصدي إلى الحكم المفتقر إلى الشرعية، وقد شكل بعضهم جناحاً فكرياً احتضن (معارضة تقية) لحكم الأمويين نجحت في إسقاطهم. ومع انتقال الخلافة إلى العباسيين نشأت طبقة من الأئمة ادعت القدرة على تمييز الصواب من الضلال، على أساس المعرفة الدينية، وربطوا السلطة بالنص القرآني.
واختلف هؤلاء الأئمة الذين ادعوا السلطة والنفوذ على أساس المعرفة في كيفية مقاربة القرآن، (فاعتبر بعضهم ممن انتهجوا نوعاً من الفقه الجدلي يطلق عليه المسلمون تسمية “الكلام” – وهي لفظة تعني بحرفيتها “الخطاب”، إلا أنها تفيد في هذا السياق “المناظرات الفقهية” – أن أفضل السبل لاستنباط مكنون القرآن يكمن في اعتماد الجدلية الصارمة والمنتظمة، أي المنطق والقياس في مناقشة القضايا الكلامية)(ص85)، وقد عرف هؤلاء بعد ذلك بالمعتزلة.
ومن الواضح خطأ المؤلف في تفسيره (الكلام) بالمناظرات الفقهية، لأن المقصود منه هو البحث في مسائل العقيدة إثباتاً ونفياً بالاعتماد على الأدلة العقلية والنقلية. وإن كانت بعض المسائل الفقهية قد وقعت موضوعاً للجدل المذهبي، إلا أن ذلك لا يخرجها عن كونها مباحث فقهية لا كلامية (عقائدية).
والأمثلة الأبرز للفقهاء العراقيين المختصين بالبحث في منطق الشريعة هم: أبو حنيفة، وتلميذيه البارزين: أبو يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني، فقد عالج الأول في كتابه (الخراج) القضايا المتعلقة بإدارة الأراضي الخاضعة للنظام الإسلامي، وعالج الثاني في كتابه (السير) إعلان وقيادة الحرب، الاتفاقيات المبرمة بين الحكام، وأحكام أهل الذمة. ويستشهد فقهاء هذه المدرسة لآرائهم بالقرآن وبما روي عن النبي (ص) وأصحابه، كما اعتمدوا على الرأي والاستحسان.
وبعد ذلك بحث الشافعي في كتابه (الرسالة) عن البيان الذي يمثل الطريقة التي يزود الله بها الإنسان بالهدى، وهذا البيان قد يكون صريحاً، وقد يحتاج في فهمه إلى التفكير. ولذلك فلابد من العودة إلى النصوص، المتمثلة في القرآن، والروايات الموثوقة التي نقلت عن النبي (ص) دون الروايات الضعيفة، وإلى المدارك العقلية التي يمكن الاعتماد عليها في إصدار الأحكام. ويجب أيضاً البحث عن الإجماع الذي يعبر عن اتفاق مجتهدي الأمة في كل عصر على رأي واحد في مسألة ما.
وبعد أن وصل العباسيون إلى السلطة في أربعينيات القرن الثامن للميلاد ركبوا موجة التشدد الديني كما فعل الأمويون من قبلهم، إذ وعدوا بالحكم وفق كتاب الله، ولكن ما شغلهم فعلاً هو قدرتهم كحكام على التحكم بولاء الجماعات المختلفة، عن طريق إكساب حكمهم الشرعية التي توفر عليهم كلفة السيطرة القسرية، فتطلعوا إلى التحالف مع الأحزاب الدينية المختلفة.
ولم يكن هذا الميل ناتجاً عن النفعية السياسية فقط، إذ يظهر أن المأمون كان متأثراً بأفكار فرقة المعتزلة، التي ترتكز على أصول خمسة، هي: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمنزلة بين المنزلتين. وبناءً على عقيدتهم في التوحيد وعلاقة الصفات بذاته قالوا بخلق القرآن. وفي ظل نفوذ المعتزلة قرر المأمون اختبار كبار الفقهاء والمحدثين في هذه المسألة، فيما عرف بـ (محنة خلق القرآن)، وقد أقر أغلب علماء السنة برأي المعتزلة في خلق القرآن، رغم أن عامتهم يقولون بقدمه، وأعرض عن ذلك أحمد بن حنبل الذي كان معروفاً بروايته للحديث النبوي، محتجاً بأن على المسلم احترام وطاعة جميع أوامر الحاكم الشرعية، وأما إذا كان الأمر ظالماً فإنه ملزم برفض الإذعان.
وبحلول القرنين الحادي والثاني عشر أصبحت أسس علم الفقه متينة بمساهمات الماوردي والسرخسي وابن عقيل وابن رشد، إذ عملوا على تأصيل ضوابط عملية استنباط الأحكام الشرعية، بدراستهم للأدلة، وبحثهم عما يمكن للفقيه الاعتماد عليه في حالة عدم وجود النص، كالإجماع والقياس.
وإذ يعتبر هذان القرنان عصراً ذهبياً لدى فقهاء السنة فإنهما كانا كذلك بالنسبة لفقهاء الشيعة، أمثال: المفيد، وتلميذيه: الشريف المرتضى، والشيخ الطوسي، حيث نمت مقاربة شيعية مميزة لمنطق الشريعة. وفي مجال الحديث فللشيعة مجامعهم الحديثية، إذ اعتمدوا بشكل أساسي على أعمال الكليني وابن بابويه المعروف بـ (الصدوق) اللذين ركزا على الإسناد في الأحاديث المروية عن أئمتهم الاثني عشر – الذين يرون أنهم أصحاب الحق في الخلافة بعد النبي (ص) – التي يوجد بينها روايات مقبولة تشهد لسلطة العقل في المسائل الإنسانية، وبذلك يكون العقل أحد مصادر التشريع لديهم.
ومما يتميزون به – أيضاً – هو أخذهم بالإجماع في بعض المسائل، ولكن ذلك ليس بنحو مطلق، إذ قد يخرج من يخطئ الإجماع متسلحاً بالحجة والمنطق لإثبات صحة رأيه، وهذا ما يفسر اعتبار علماء الشيعة أنفسهم أكثر استقلالية واستعداداً لمراجعة السوابق الفقهية من أقرانهم السنة.
وفي القرون التالية اقتضت ممارسة الفقهاء لمنطق الشريعة إيجاد توازن بين الاستمرارية والإبداع، إذ وجب احترام إنجازات الأجيال السابقة بمتابعة الفقهاء السابقين في الأحكام التي توصلوا إليها، في حين إن القدرة على الإبداع تنشأ من طريقة التعليم المتبعة التي زودت قلة من الفقهاء بإمكانية استنباط الأحكام بنحو مستقل، ومن إدراك أن الظروف المختلفة تدعو إلى أحكام جديدة.
ومن الوجوه البارزة للفقهاء الذين استجابوا للتغيرات التي بدأت تأثر في المجتمعات الإسلامية في القرن التاسع عشر شاه ولي الله في شبه القارة الهندية الذي أنشأ مركزاً خاصاً لتهيئة العلماء الشباب الذين عليهم دعوة مسلمي الهند إلى تأدية رسالتهم في ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن تلك الوجوه محمد بن عبد الوهاب الذي تحالف مع أسرة آل سعود، وعمل هذا الحلف على نشر الحركة الوهابية في شبه الجزيرة العربية وخارجها، التي رأت أن دعوة المسلمين إلى التوبة ومقاتلة من يرفض الإذعان لهذه الدعوة يتسقان مع رؤية الشريعة الإسلامية.
وتالياً ظهر جمال الدين الأفغاني ليقدم رسالته الإصلاحية الشاملة المرتكزة على المناهل الإسلامية الأصلية، فإدراك تدني الواقع الإسلامي يقتضي إدراك الحاجة الماسة إلى الانفتاح على الشريعة وبخاصة فيما يتعلق بالتعليم، لأن الإسلام يدعو إلى السعي في طلب العلم. وشَخَصَ أن المسلمين فقدوا براعتهم العلمية نتيجة النقص في تقواهم. ولهذا يجب التأكيد على ارتباط الرؤية السياسية بمنطق الشريعة.
ولنشر رسالته الإصلاحية جاب الأفغاني العالم الإسلامي متنقلاً بين أفغانستان وتركيا ومصر والهند وغيرها، وكان محمد عبده شريكه في أسفاره فتأثر بأفكاره كثيراً، وقامت خطته الإصلاحية على الربط بين الاستقلال السياسي والإصلاح الديني، ومن هنا برزت الحاجة إلى إصلاح تربوي على المستوى النخبوي في تهيئة العلماء، وعلى مستوى تعليم المتخصصين في القضايا العلمية والتقنية.
وبعد نشوب الحرب العالمية الأولى، وما أسفر عنها من سيطرة بريطانيا وفرنسا على أجزاء من الإمبراطورية العثمانية، التي أصبحت تقتصر على تركيا، ثم إعلان مصطفى كمال النظام الجمهوري فيها عام 1924م وإلغاء الخلافة العثمانية، طُرحت أزمة تشريعية في البلدان الإسلامية، باعتبار أن (الخليفة العثماني) كان رمزاً للوحدة الإسلامية.
وفي تلك الظروف برز نقاش حول إمكانية استعادة الخلافة، ولتعلق المسألة بالشريعة فقد وقع البحث بين علماء الأزهر في صفات الخليفة، وفي تلك الأثناء نشر علي عبد الرزاق كتابه (الإسلام وأصول الحكم)، الذي ذهب فيه إلى أنه لم يوضع نموذج خاص للخلافة في القرآن أو السنة، وأن النبي (ص) استقى سلطته السياسية لا بسبب كونه نبياً، بل نتيجة مهارته في إدارة شؤون الدولة، وكذلك الحال بالنسبة لمن جاءوا من بعده وحملوا لقب الخليفة، واقترح الفصل التام بين الدين والسياسة.
فتصدى عدد من شيوخ الأزهر له، ومنهم رشيد رضا، الذي أخذ عليه اقتراحه فصل الدين عن السياسة، معتبراً أن النظام السياسي يمكن أن يعتمد على الخلقيات العامة التي وضعها الدين، واحتج لنوع من الخلافة الاستشارية، حيث يمكن لممثلي الشعب التشاور بشأن المسار السياسي لبلادهم، إلا أنه لم يشرح بوضوح البنية التي يقوم عليها هذا النظام.
وفي ذلك الوقت أسس حسن البنا حركة الإخوان المسلمين، وأكد في كتاباته وخطاباته أن الدولة الإسلامية هي دولة الشريعة، وإن لم تكن كذلك فإنها تفقد شرعيتها، وإن تَبيّن الشريعة يجب أن يكون عن طريق الشورى بين المسلمين.
وفي جنوب آسيا مثّل أبو الأعلى المودودي والجماعة الإسلامية مرادفاً لحسن البنا والإخوان المسلمين.
أما في إيران التي كانت بعيدة عن تداعيات إلغاء الخلافة العثمانية فإن نقاشاً جرى بين الشيعة حول دستور عام 1906م الذي ضم مواداً تسمح للجمعية العامة بمناقشة أحكام الشريعة، وإذ قدم العديد من علماء الشيعة الدعم للدستور، احتج آخرون بأن ذلك يلمح إلى إمكانية أن تكون القوانين من صناعة البشر بدل أن تكون مستقاة من الشريعة الإسلامية.
وفي فترة لاحقة نجد في خطب الخميني السياسية مثالاً على إحساس علماء الشيعة بأنهم ليسوا حراساً على التقليد الديني فحسب، وإنما على الهوية الشيعية لإيران.
في السياسة والحرب والأخلاق في الإسلام الكلاسيكي
يعتبر فقهاء العراق مثالاً للذين عالجوا مسائل الحرب استناداً إلى القرآن وسيرة النبي (ص) في مغازيه وحروبه، وتلمح المصادر إلى تطور الوعي بملائمة القتال مع التوجيهات الإلهية. وعليه فإن مفهوم الحرب العادلة وجه من وجوه الأدبيات المؤسسة للإسلام.
ويعد كتاب (السير) للشيباني من أكثر نصوص المدرسة العراقية جدارة بالدراسة، فمن مقدمة الكتاب يتضح أن المؤلف يقارب مسألة الحرب بطرحه لقضايا تقع في دائرة الأخلاقيات السياسية، فالحرب وسيلة يُراد منها تحقيق غرض سياسي يتمثل في إنشاء دولة تحفظ للمسلمين حقهم في الالتزام بمقررات الشريعة، أي إنها مجرد وسيلة تضمن تحقيق هدف معين، وبذلك يظهر أن الرغبة في تحقيق أهداف خاصة تملي المفاهيم حول السلوك العادل في الحرب.
يعتمد الشيباني على نصوص من مغازي النبي (ص) لاستصدار فتاواه، فاستفاد من بعضها حصر حق اللجوء إلى الحرب برأس الدولة الذي يمثل السلطة الشرعية، لأجل إقامة الدولة الإسلامية المسؤولة عن دعوة الناس إلى الإسلام، لهذا فإن اللجوء إلى الحرب لابد أن يكون مسبوقاً بدعوة العدو للدخول في الإسلام، وهذا ما يثبت أنها ليست الوسيلة الرئيسية لبلوغ تلك الغاية، إذ لا يؤمر بالقتال إلا عند فشل الوسائل الأخرى.
فقد وضعت السنة معايير للحرب الحقة، هي: السلطة الشرعية، السبب الصائب، النية الصادقة في نشر الإسلام بين الناس. وتمثل هذه المعايير المرجع في تحديد الإجراءات المتبعة في الحرب، فيستفاد من نصوص السنة حظر الخداع والزيف والتعذيب والتنكيل وقتل الأطفال، وهي تشتمل على قيود تتعلق بالمستهدفين في القتال بما يُعطي غير المحاربين حصانة تحميهم من الهجوم المباشر أو المتعمد، وكذلك ما يتعلق بالتوزيع المنصف للغنائم، وبضرورة الحذر عند عقد الاتفاقات.
وعليه فلابد أن يكون قيام المسلمين بالغزو مسبوقاً بالدعوة إلى الإسلام، باعتبار أنها السبب في مشروعية هذه الحرب، الذي يكشف عن النية الصادقة في نشر الإسلام. وفي فرض رفض العدو للدعوة فإن لجيش المسلمين هامشاً واسعاً من حرية اختيار الوسائل العسكرية الضرورية التي تؤدي إلى إلحاق الأذى بالعدو، وتضمن النصر للمسلمين، كالرمي بالمنجنيق، أو النبل، أو إرسال الماء، أو التحريق بالنار، التي قد يؤدي استخدامها إلى سقوط ضحايا من غير المحاربين، كالأطفال، العبيد، النساء، العجزة، المجانين والمسلمين المتواجدين في المنطقة، ولكنهم ليسوا أهدافاً مقصودة بنحو مباشر من تلك العمليات، وإذا ما سقطت ضحايا من هذا القبيل فعلاً فإنه لا يجب دفع الدية لهم.
وقد استنتج المؤلف من ذلك أن (من شأن طبيعة الدعوة أن تُثبت بوضوح أن الحرب ليست الوسيلة الأولى أو الرئيسية الموصى باعتمادها لبلوغ هذه الأهداف. إذ لا يؤمر بالقتال إلا في حال فشلت الوسائل الأخرى في تحقيق المراد. ومع أن هذه الصيغة لا تُشكل مرادفاً دقيقاً للمعيار الغربي الذي يستصوب الحرب العادلة بوصفها السبيل الوحيد الباقي، إلا أنها تشتمل على إشارة مفادها أن اللجوء إلى مثل هذا الإجراء ينبغي أن يستتبع محاولة بلوغ الأهداف الشرعية بوسائل غير مؤذية) (ص135).
وما ذكره المؤلف من وجود فرق بين المعيارين الإسلامي والغربي غير واضح، فالحرب بناءً على كلا المعيارين هي الوسيلة الأخيرة التي يتم اللجوء إليها في حال استنفاذ باقي الوسائل والفشل في تحقيق الهدف المرجو، وكون الوسائل السابقة على الحرب وفق المعيار الغربي هي الدبلوماسية أو الضغوطات الاقتصادية لا تشكل فارقاً جوهرياً مع المعيار الإسلامي، لأن المراد بالدعوة ليس مجرد الطلب من الآخرين الدخول في الإسلام، وإنما تشمل مناقشتهم ومحاورتهم وفي أصول الإسلام بما يزيل اللبس ويقيم الحجة، وهذا تعبير آخر عن اللجوء إلى الوسائل الدبلوماسية في حل الخلافات.
والذي ينبغي التنبيه عليه أن آراء الشيباني ليست مسلّمة لدى جميع الفقهاء، فثمة خلاف حول عدد غير قليل من المسائل التي طرحها، ويشير كتاب الطبري (اختلاف الفقهاء في الجزية والجهاد) إلى الجدل الدائر حول تلك المسائل.
ومع حلول عصر الماوردي انتقل منطق الشريعة من البحث في تفاصيل القانون الإداري إلى البنية العليا للسلطة الشرعية، إذ يرى الماوردي في (الأحكام السلطانية) أن تنصيب الإمام هو مطلب الشريعة، وأن من يشغل هذا المنصب يجب أن يكون فرداً واحداً يُعين من سلفه، أو باختيار أهل الحل والعقد، شريطة توفره على ميزات معينة.
والخليفة (الإمام) هو الذي يتولى تعيين كل من الوزراء الذين يدير من خلالهم شؤون الإمبراطورية، والولاة في الأقاليم المختلفة، ولكن بعد عام 935م لم يكن الخليفة قادراً على ممارسة السلطة الفعلية، إذ كانت مرتكزة في يد ولاة الأقاليم، فالوالي هو الذي يقود الجيش، ويجبي الضرائب، ويضطلع بمهام الحكم. وإذا كان أحد الولاة أكثر قوة من غيره فإن يقوم بضم مقاطعات أخرى إلى تلك التي ولّيَ عليها، وفي هذه الحالة يرى الماوردي إن على الخليفة الحفاظ على وحدة دار الإسلام وصيانتها عبر تفويض ذلك الوالي إدارة المقاطعات التي استولى عليها. وهو بذلك يُلبس إمارة المتغلب ثوب الشرعية.
والحاكمية العامة تترافق والصلاحية المطلقة في إعلان الحرب، وتفرض على الحاكم العام العناية بالقوة القتالية، فيعمل على تكوينها، وتزويدها بالسلاح، وبث الروح المعنوية فيها، وقيادة القتال ضد المشركين في دار الحرب، الذين تجب دعوتهم إلى الإسلام قبل مقاتلتهم فيما لو لم يسبق أن وصلتهم الدعوة ، وكذلك مقاتلة المرتدين والبغاة والمحاربين في دار الإسلام. وفي هذا السياق يؤكد الماوردي على عدم جواز قتل النساء والأولاد والمستخدمين والعبيد، إلا إذا شهروا أسلحتهم بوجه المسلمين.
ويأتي السَلَمي الدمشقي ليتناول في كتابه (الجهاد) البحث في مسألة وجوب الجهاد على الأمة الإسلامية في حالة تعرض المسلمين للغزو واحتلال أراض إسلامية، في استجابة منه لغارات الجيوش الصليبية التي أخذت تتوغل في دار الإسلام، فإذا ما تعرضت مدينة إسلامية لهجوم الفرنجة ولا تقوى على الدفاع عن نفسها وجب على المدن الإسلامية في المنطقة أن تهب لمساعدتها في درء هجوم المعتدين عنها، فالكتاب وسيرة النبي (ص) والإجماع المتعلق بواجب القتال على الأمة جميعها تدل على أن هذا الفرض يصبح في حالات الضرورة واحداً من واجبات المرء الفردية.
وموقف السَلَمي هذا شكّل أرضية لأن يكون النظر إلى الجهاد باعتباره واجباً فردياً في الظروف الطارئة أمراً يسيراً، كما في ابن تيمية الذي يرى أنه إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين فإن دفعه يصير واجباً على المقصودين كلهم، وعلى غير المقصودين لإعانتهم. والذي أكد في كتاباته على عدم مقاتلة غير المحاربين، كالنساء والأولاد والرهبان والعجزة وذوي الإعاقات إن هم لم يقدموا العون للمحاربين أو يساهموا في الحرب. كما أشار إلى الفئات التي يجب قتالها، من الكفار والمرتدين والبغاة والخوارج ومانعي الزكاة واليهود والنصارى الذي يعيشون في ظل الدولة الإسلامية إذا انتهكوا شروط الذمة.
وفي الإطار الشيعي نجد أن الفقهاء – وتأسيساً على أن القيادة الشرعية تعود إلى الإمام – قد تبنوا موقفاً يختلف بعض الشيء عن موقف فقهاء السنة، فالمحقق الحلي يرى إن الإمام أو القائد المنصوب من قبله هو الذي يملك السلطة في إعلان الحرب لغرض توسيع دار الإسلام، وفي حالة غيابه فإن سلطة نوابه (الفقهاء) تقتصر على الدعوة إلى جهاد الدفع في حالات التعرض للغزو من قبل غير المسلمين.
وفي مثل هذه البيئة يُعمل بالقواعد التي تنظم العمليات العسكرية وتتحكم بسلوكيات الجند، فعلى المقاتلين دفاعاً عن دار الإسلام اجتناب استهداف غير المحاربين، ولهم استعمال الطرق العسكرية التي تضمن لهم النصر. وإذا لم يمكن الدفع فيجوز للحاكم طلب العون من الحكام المسلمين المجاورين.
في الثقافة المسلحة والتقليد الإسلامي
مثّلت آراء الفقهاء المتقدمين سوابق استند إليها من جاء بعدهم لإضفاء الشرعية على ممارساتهم، إلا أن ذلك يستوجب التطابق بين ظروف تلك السوابق والظروف الراهنة. فالأفكار المتعلقة بالسياسة والحرب صاغها العلماء في بيئة تحكمها دولة إسلامية تضطلع بمسؤولية نشر الإسلام في العالم، ولكن منذ القرن الثامن عشر أصبح نفوذ الدول الأوروبية يشكل تحدياً لسيطرة المسلمين، وهو ما اقتضى من الفقهاء البحث عن سوابق تُعيّن الأحكام الشرعية التي تهدي الأمة في زمن ضعف سلطتها. وقد أمّنت كتابات ابن تيمية مصدراً مهماً في هذا المجال، إذ تزخر نصوص (المجاهدين) بالإحالات عليها.
والأمر الجدير بالدراسة هو الحجج التي تطرحها المجموعات الجهادية لتسويغ عملياتها الحربية، في محاولتهم لتوسيع أطر السوابق التي أرساها السابقون بما يضمن معالجتها للوقائع المعاصرة. إلا أن هذه الحجج عرضة للانتقاد على خلفية الشريعة من قبل فئات تختلف مع هذه المجموعات في الرأي.
ومن ذلك ما احتج به محمد عبد السلام فرج في كتابه (الفريضة الغائبة) – الذي وصف بأنه وصية قتلة السادات – من أن الشريعة تقرر قاعدة مفادها: إن عقاب المرتد أشد من عقاب الكافر الأصلي، وحيث أن السادات وقع معاهدة اعترف بموجبها بإسرائيل وأقام علاقات رسمية معها، وإذ مثلت تلك المعاهدة تنازلاً عن أرض إسلامية لصالح العدو، فإنه يعتبر مصداقاً للمرتد. ولا يقتصر ذلك على السادات، بل يشمل جميع حكام الدول الإسلامية، الذين لا يحملون من الإسلام إلا اسمه، وذلك بإدخالهم شرائع وقوانين ليس لها أساس في مصادر الشريعة، ولذلك فإنه ينبغي قتالهم، ويقع على المسلمين واجب الثورة عليهم وخلعهم، من أجل إقامة نظام شرعي عادل، ووجوب هذا الأمر مشابه لفريضتي الصلاة والصيام.
وأما ميثاق حركة حماس فيعتمد في تسويغ المقاومة المسلحة على (جهاد الدفع)، على أساس مشابهة الأوضاع القائمة للحروب الصليبية، إذ فُسرت أعمال القوى الاستعمارية بوصفها استكمالاً لما توقف فرنجة القرون الوسطى عنده، ولذلك فما تقوم به الحركة هو مقاومة عملية الاستيلاء على أرض فلسطين التي هي أرض وقف إسلامي على المسلمين إلى يوم القيامة.
ويلاحظ المؤلف – هنا – أن السوابق التاريخية تختلف عن هذا الطرح، (بالنظر إلى أن صلاح الدين الأيوبي مثّل سلطة… أجمعت العامة على الاعتراف بها، وعلى نحو أكثر شمولية بالنظر إلى أن الدعوة إلى القتال بوصفه فريضة فردية تظهر كاستدعاء للحكام المسلمين في المقاطعات المجاورة ليهبوا لنصرة إخوتهم في الدين في سوريا – فلسطين) (ص174).
ويمكن أن يعترض عليه بأن وجود سلطة معترف بها ليس شرطاً في جهاد الدفع، لأن جهاد الدفع – وكما أشار المؤلف بعرضه لآراء السَلَمي وابن تيمية – واجب على أفراد البلاد التي تتعرض لغزو العدو، وعلى بقية البلدان الإسلامية إعانتهم في ذلك، أي إن على كل مسلم مجاهدة الغزاة من أعداء الإسلام كما عليه أن يؤدي سائر الواجبات الشرعية، ومن المعلوم أن القيام بالواجبات الفردية لا يتطلب وجود سلطة شرعية تتصدى لهذه المهمة.
ويستند ميثاق حركة حماس في اعتبار الجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة بأن كون المسلمين في حالة طارئة يعلق العمل بالمسالك العادية للسلطة، فما دامت القيادة السياسية غير مضطلعة بمسؤولياتها فإن واجب المقاومة يقع على كل فرد من الأمة، لأن الضرورات تبيح المحظورات.
وتقوم حجة الجبهة الإسلامية العالمية لجهاد اليهود والصليبيين – المكونة من خمسة مجموعات جهادية أهمها القاعدة – على أساس مشابه، ولكنه أوسع نطاقاً من جهة أن العدو الغازي لدى الجبهة هو الأمريكان وحلفائهم فضلاً عن الصهاينة، إذ أجمع العلماء على أن الجهاد فرض عين إذا دهم العدو بلاد المسلمين، ولذلك فإن حكم قتل الأمريكان وحلفائهم مدنيين وعسكريين يصبح فرضاً على كل فرد مسلم أمكنه ذلك، وفي كل بلد تيسر فيه.
ويركز النقد الإسلامي الموجه للحركات الجهادية على الوسائل التي تستخدمها تلك الحركات، باعتبارها تشمل أفراداً حيّدتهم السوابق التي قررها الفقهاء، فالحجة التي يستند إليها عبد السلام فرج تلمح إلى إمكانية تصنيف من يشارك في شؤون الدولة المصرية في خانة المرتدين، وهذا ما يؤدي إلى انتهاك سوابق الشريعة التي ترسي مبادئ القتال المشرِّف وقواعده السلوكية.
وبالنسبة إلى حماس فقد اعترض على ما تقوم به من عمليات استشهادية بأنها تستهدف المدنيين الإسرائيليين بنحو مباشر ومتعمد، وهذا مخالف لما نصت عليه السوابق من ضرورة تحييد غير المحاربين.
ولكن احتج الشيخ القرضاوي لهم بأن المجتمع الإسرائيلي عسكري بطبيعته، فالرجال والنساء يؤدون الخدمة العسكرية، ويمكن استدعاؤهم في أي وقت، وإذا لقي طفل أو مسن مصرعه فهو لم يقتل عن عمد، وإنما أُردي خطأً، ونتيجة الضرورة العسكرية، فالضرورات تبيح المحظورات.
وقد أُدينت عمليات حركة القاعدة، لنفس السبب وهو عدم التمييز بين الأهداف المدنية والعسكرية.
إلا أنه جرى تبرير هذه الممارسات بأمرين: (1) إن مواطني الدول الديمقراطية يشاركون حكوماتهم الإثم، لأنهم جاؤوا بهذه الحكومات عن طريق الاقتراع. (2) إن القوات الأمريكية تسببت في مقتل الكثير من المدنيين المسلمين، ولنا أن نعاملهم بالمثل فنقتل من مدنييهم بقدر ما قتلوا من المسلمين.
وإذن، فالمسألة ترجع إلى تقويم الحجج المطروحة في ضوء شروط مزاولة منطق الشريعة الإسلامية وتسويغ أحكامها، وهذا يستدعي تقويم السابقة التي يستند عليها.
فبالنسبة إلى مفاهيم القتال المشرِّف نجد إن السوابق المعتمد عليها تؤكد جميعاً على المحاذير المفروضة على استهداف غير المحاربين، وضرورة تحييدهم. وفي حالة دهم عدو لا يمكن دفعه يتهدد المسلمين بالخطر فإن السوابق تفترض أن الدعوة إلى المساعدة موجهة إلى الحكام المسلمين خارج المنطقة المستهدفة مباشرة، أكثر مما هو موجه إلى الأفراد (ص192).
وقد تقدمت مناقشة المؤلف في زعمه هذا، فالسوابق وإن نصت على أن النداء موجه إلى حكام المناطق المجاورة، ولكنها أكدت أن الجهاد فرض عين على كل مسلم، بمعنى إنه يصبح تكليفاً شخصياً لكل فرد من المسلمين بغض النظر عن موقف الحاكم.
ويرى المؤلف إن في النزعات الجهادية الفوضوية ما يدل على مشكلة مستمرة، فالتركيز على المقاومة يدل على أن المجتمعات الإسلامية ومعها مزاولة منطق الشريعة في أزمة، ففي القرون السابقة استطاع الفقهاء أن يوفروا الهداية للمجتمع، لتبحرهم بالقرآن وإلمامهم بروايات السنة واطلاعهم على قواعد تفسير هذه النصوص. ولكن خلال القرنيين الأخيرين انبثقت طبقة من ممتهني الفقه لم يرضوا بتنازل المفهوم المعاصر للشورى بين القادة السياسيين والدينيين عن العدالة السياسية، فيذعنون للمظالم. ولهذا فلا الطبقة الدينية ولا السياسية توفران قيادة رشيدة تستطيع أن تؤهل الأمة للاضطلاع برسالتها التاريخية، وهذا خطأ يجب تصويبه، ليس لأجل الأمة الإسلامية فقط، وإنما أيضاً لأجل إنقاذ العالم.
في العمل العسكري والسلطة السياسية
لا تدور جميع حجج الجماعات الجهادية حول الوسائل العسكرية فحسب، وإنما تتعلق – أيضاً – بالمنهج الذي اختطه الإسلام للحياة السياسية. فدعوة الجبهة الإسلامية العالمية والفريضة الغائبة وحماس المسلمين إلى القتال تشتمل على ادعاءات حول الشكل الملائم للدولة الإسلامية، التي يرتبط شكل نظام الحكم فيها بسيرة النبي (ص)، وبطرح الإسلام بوصفه الديانة الطبيعية للبشرية.
ففي بيان للرجل الثاني في تنظيم القاعدة بعد تفجيرات لندن ربط أيمن الظواهري الصراع مع الولايات المتحدة وحلفائها في أفغانستان والعراق بسوابق بارزة في الشريعة، فـ (أرض محمد (ص)) وقف (أمانة) في الأعناق يستلزم رعايتها إقامة حكم إسلامي وصيانته بما يتفق مع إرادة الله.
وهو ما يرجع إلى الرواية الإسلامية السائدة حول كيفية تحول الإسلام من ديانة في شبه الجزيرة العربية إلى قوة عالمية استجابت لما دعا الله إليه من حماية المستضعفين من طغيان الأنظمة الاستبدادية فأحلوا محلها نظاماً أفضل منها، قائماً على الحكم بالشريعة.
فالحركات الجهادية تتطلع – من خلال ممارستها – إلى تقديم هداية الإسلام إلى العالم ويرتكز الإصلاح الحق – بحسب الظواهري – على ثلاثة مبادئ:
1- الحكم بموجب الشريعة، حماية لمصالح المؤمنين وحريتهم وكرامتهم وصيانة مقدساتهم.
2- حرية أراضي دار الإسلام، إذ لا يمكن تصور الإصلاح في ظل الاحتلال الصليبي لأرض المسلمين.
3- حرية أمة المسلمين في إدارة شؤونها، وذلك عن طريق:
(أ) استقلالية النظام الشرعي (القضائي) وتطبيق قواعده.
(ب) ضمان حرية وحق الأمة الإسلامية في تطبيق مبدأ جلب المنافع ودرء المفاسد.
فرؤية الظواهري للحياة السياسية يتماهى فيها حكم الشريعة مع النظام الذي ينبغي أن يضطلع المسلمون فيه بالقيادة، كما هو حاصل في السوابق التي أُرسيت في بدايات الإسلام، ولا يمكن الخروج عنها وإن تغيرت ظروف وأوضاع المسلمين. ولذلك فإن طرح سؤال من قبيل: هل من الممكن قراءة مصادر منطق الشريعة بطرق تجيز للمسلمين المساهمة على نحو حقيقي في النظام السياسي الديمقراطي؟ وهل يمكن للمسلمين أن يُماثلوا نظاماً يساهم فيه غير المسلمين في التكوين السياسي؟
بالنسبة إلى الظواهري الجواب هو النفي. وإن كان ثمة خلاف في ذلك، فبعض المؤلفين المتشددين يجيزون إعطاء غير المسلمين دوراً في الفرع التنفيذي للحكم، كأحد المناصب الوزارية، أو أن يُمثلوا بشكل محدود في مجلس الشورى، وذلك وفاءاً بمبدأ الالتزام بالحكم بموجب الشريعة، وصيانة الدور الإشرافي للمسلمين.
ولذا ترفض جماعات المجاهدين الديمقراطية بمفهومها الداعي إلى المساواة بين المواطنين، ففي الرؤية الجهادية تُطبق الأحكام على الوقائع المعاصرة أكثر مما تُفسر. ويُجيب النشطاء الجهاديون عن القول بعدم مطابقة نموذج الخلافة المتمثلة في الإسلام التاريخي مع حاجات ومصالح الأشخاص المعاصرين – بعبارة مقتضبة: (فلتبق السوابق قائمة)، وإذا كانت هناك مشكلة في المطابقة فإن مسؤولية ذلك تقع على الإنسانية المعاصرة التي يعوزها الفهم والوعي.
ظاهرياً تبدو حجة الظواهري وغيره من الجهاديين معقولة ومفهومة إسلامياً، فبرنامجهم واضح الصياغة، وهم يعتمدون فيه الشروط الأساسية لدى الفقهاء، والسؤال: هل هم في ذلك على صواب؟
الملاحظ أن الانتقادات الموجهة إليهم تتعلق باستهداف المدنيين، واعتبار القتال فرض عين على كل مسلم، وتحديد الموقع الصحيح للعمليات العسكرية، ومن المستغرب أن لا يوجه إليهم انتقاد جوهري يتعلق بمفاهيم السلطة السياسية، فلماذا لا يُلح عليهم بالكف عن تأييدهم العمليات العسكرية؟! أو بقصر أنفسهم على الاشتغال بمسألة الإصلاح عبر القنوات المعتادة؟!
ويبدو أن جواب ذلك مفاده: إن تلك الانتقادات لا تتعارض في الواقع مع الحكم الجهادي القائل بعدم شرعية الترتيبات السياسية الراهنة، فالرؤية الجهادية للظواهري هي في خطوطها العامة رؤية ناقديه، وهم لا يختلفون معه في أن علاج ما ابتلي به المجتمع الدولي من آفات يستلزم إقامة الخلافة الإسلامية.
وهذا الحكم كما أنه محل إجماع العلماء التقليديين، فإنه يجتذب بعض أهم وأوسع النزعات انتشاراً في الفكر السياسي الإسلامي الحديث، التي يقوم بعضها على أن الحكم الإسلامي يقتضي برلماناً وانتخابات تضمن لعملية الشورى أن تكون أكثر إشراكاً للمواطنين مما كانت عليه في الماضي. ولكن إتباع هذا المسار يؤدي إلى تقليص الدور السياسي للإسلام، وهذا يعني أن صوت المسلمين سيكون واحداً من الأصوات المساهمة في صنع القرار السياسي، فالديمقراطية تقتضي نوعاً من التكافؤ بين الإسلام وغيره، وهذا وضع خطير ليس لمكانة الأمة الإسلامية فقط، وإنما للحياة الخلقية للبشرية.
ومن جانب آخر هناك المسلمون الديمقراطيون الذين يعارضون هذا الرأي ويدافعون عن قراءة أخرى للسنة، إذ يرون أن المشكلة لا تكمن في الوسائل الاحترابية، بل في مفهوم الخلافة الإسلامية نفسه، وهم يفسرون مناهل الفقه بطرق تؤكد حرية المعتقد كمتطلب لسياسة مرتبطة بحماية حقوق الإنسان، وأن المفهوم التقليدي للنظام السياسي في الإسلام يؤدي إلى العنف الديني.
وترجع علاقة المسلمين بالديمقراطية إلى عام 1891م، إذ أصدر سيد أمير علي كتاب (روح الإسلام)، الذي أشار فيه إلى طرق تسمح لمن كان حسن الاطلاع على مناهل الشريعة ومناهج الاستنباط بتطوير تسويغ للسياسات الديمقراطية.
ومن الممكن فهم الدوافع التي تُحرك المسلمين الديمقراطيين إذا ألقينا نظرة على عمل ثلاثة من المؤلفين المسلمين المقيمين في الولايات المتحدة، والذين تربطهم عرى وثيقة بدار الإسلام التاريخية.
فقد تضمن كتاب عبد العزيز ساشدينا (الجذور الإسلامية للتعددية الديمقراطية) 2001م، مناقشة تدعم الرؤية القائلة: إن المناهل الإسلامية تتطلب من المسلمين العمل لإرساء نظام سياسي تجد حقوق المعتقد فيه احتراماً كاملاً. ويحتج المؤلف بقوله تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}، لإثبات أن مهمة النبي (ص) في تلك البيئة التي كان يُضطهد فيها المسلمون على أيدي الكفار هي العمل على إنشاء نظام سياسي يمكن له أن يضمن حرية الدين والعبادة للمسلمين، ولم تكن مهمته تقتضي فرض الإيمان، لأن الإيمان – بحسب القرآن – هبة من الله. فالناس قد يجبرون على قول ما لا يؤمنون به إذا ووجهوا بالقوة.
ولحماية حق المؤمنين في ممارسة شعائرهم الدينية يجب أن يتاح لغير المؤمنين سماع كلمة الله ورفضها، والعيش بناءً لما تمليه عليهم ضمائرهم، فالرؤية القرآنية للنظام السياسي تتجسد في سياسات تحمي حرية المعتقد.
ويرى – أيضاً – إن موقف أبي بكر من المرتدين ومانعي الزكاة لم يكن دينياً، بل سياسياً، وإن تسويغ الشريعة لما قام به ارتبط بالحاجة لنظام سياسي يمكن للمسلمين فيه الشعور بالأمان. وقد تختلف هذه الحاجة باختلاف الزمان والمكان، ففي الظروف التي يشعر فيها المسلمون بأنهم أحرار في ممارسة دينهم، والجهر بشهادة التوحيد، والعبادة بحسب معتقدهم، لا يعود الخليفة مطالباً بالمعاقبة على الردة بوصفها جريمة.
ويعتبر ساشدينا في مقالة له أن الجهاد إجراء حاسم لضمان حق المسلمين بممارسة العبادات التي يدعوهم دينهم إلى الاضطلاع بها، وفي حالات معينة قد تقتضي الطبيعة العدائية للعدو – التي قد تأخذ شكل الحد من حق المسلمين في دعوة الناس إلى الإسلام – أن يستعمل المسلمون السلاح في مواجهتها.
وأما عبد الله النعيم فيحتج في كتابه (نحو إصلاح إسلامي) 1990م، بأن ظروف الحياة المعاصرة والدروس المستقاة من التاريخ تقترح على المسلمين إما التخلص من الشريعة التاريخية أو مراجعتها.
وفي كتابه (مستقبل الشريعة) يعتبر النعيم إن في تماهي الحكم بموجب الشريعة مع النظام الذي يتصوره الظواهري وغيره أمر يخالطه الخطأ. ويطرح بديلاً يستلزم فصل الإسلام عن الدولة في دولة تعتمد الحياد في الدين، لأن الحياد شرط ضروري لإذعان المسلمين لأحكام الشريعة الإسلامية، وتطبيقها كالتزام ديني، وليس خضوعاً لإرادة الدولة، فالتزام أحكام الشريعة يجب أن يقوم على النية الصادقة، وهذا لا يستقيم مع الإرغام الجبري للدولة.
ويرد على من يؤكد على إرساء السابقة التاريخية لأنموذج محدد من الحياة السياسية تندمج فيه السلطة الدينية بالسياسية بحجة مفادها: أنه إضافة إلى المثال الذي يجسده النبي (ص)، تُفضي دراسة التاريخ الإسلامي إلى مجموعة متنوعة من السوابق، إذ ليس هناك أنموذج واحد يمكن اتباعه، وإنما توجد مجموعة من الروايات التي يحاول المسلمون التوفيق بينها وبين نماذج تستلزم فصلاً تاماً للدين عن السياسة، ودمجاً كاملاً بينهما، أو لنقل تقاطعاً بين هذين البعدين من الحياة.
وهناك خصوصية للنبي محمد (ص) تتأتى من منصبه، فبوصفه نبياً يتصرف بإملاء من السلطة الدينية، ويضيف إلى سلطته هذه سلطة سياسية تستند إلى مؤهلات بشرية، وقد تجلى في المدينة الدمج بين السلطتين لتشكلا سلطة واحدة. وفي حقبة الخلافة الراشدة نجد أن العلاقة بين السلطتين تفتقر إلى الوضوح، فهناك أسباب سياسية كانت وراء قرار أبي بكر بقتال القبائل الرافضة لدفع الزكاة إليه. وفي الفترات اللاحقة تكشف الممارسة الفعلية للسلطة عن أن هناك فصلاً واضحاً بين السلطتين.
والملاحظ أن ما طرحه النعيم في كتاباته هو مجرد تكرار وتوسيع لما سبق وطرحه علي عبد الرزاق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم)، ولم يقدم رؤية جديدة للعلاقة بين السلطتين الدينية والسياسية.
وأما خالد أبو الفضل فإنه يُعالج هذه المسألة في كتابه (مكانة التسامح في الإسلام) مستنداً إلى سوابق ترتبط بموقع أهل الذمة في الدولة الإسلامية، فيقول: إن جباية الجزية من المجموعات البشرية الأجنبية كان أمراً مألوفاً داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها عندما أُنزل القرآن، وبناءً على هذه الممارسة التاريخية احتج الفقهاء بأن على الدولة الإسلامية أن تجبي الجزية من غير المسلمين مقابل ما تقدمه لهم من حماية، ولذلك فإذا لم تتمكن من حمايتهم لم يُفترض بهم جباية الجزية.
إضافة إلى ذلك، فإن القرآن لا ينطلق بقاعدة عامة في هذه المسألة. (ومرة أخرى يتضح أن التنبه إلى الظرف التاريخي أمر ضروري، فالقرآن يصادق على الجزية بوصفها رداً على جماعات محددة من الناس كانت على الدوام تقابل أوائل المسلمين في شبه جزيرة العرب بالعدائية والكراهية، والأهم من ذلك أن النبي (ص) لم يأمر بجباية الجزية من أي قبيلة أذعنت لسيادة المسلمين، وإن لم تتدين بالإسلام، بل إنه في الواقع كان يكرم القبائل العربية التي كثر عديدها واشتد عداؤها للمسلمين، فيدفع لهم دورياً بالأموال والمتاع، التي يشار إليها باسم {الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}) (ص229).
ويمكن مناقشة ما استند إليه أبو الفضل في رأيه بما يلي:
1- إن إدعاءه بأن القرآن صادق في مسألة الجزية على أمر كان موجوداً فعلاً مما يحتاج إلى دليل تاريخي يؤكد وجود هذه الظاهرة في فترة نشوء الإسلام، ولا يكفي فيه مجرد الافتراض.
2- إن ما ذكره من أن النبي (ص) لم يقم بجباية الزكاة من القبائل العربية التي أذعنت لسلطة المسلمين يستبطن إقراره (ص) المشركين على دينهم، وهذا ما لم يحصل مطلقاً.
نعم، يمكن أن يكون أبو الفضل قد توهم ذلك من حلف النبي (ص) مع قبيلة خزاعة، والحال أن هذه القبيلة لم تخضع لسلطة المسلمين، بل كانت حليفاً لهم، ومن المعلوم أن نشوء حلف بين طرفين لا يقتضي خضوع أحدهما لسلطة الآخر، بل يبقى كل منهما كياناً مستقلاً عن حليفه.
ولو فرضنا أن ما ذكره كان صحيحاً فإن جميع المعاهدات التي عقدها النبي (ص) قبل فتح مكة عام 8 هـ – 629م تم إلغاؤها بنزول سورة التوبة (براءة)، التي قررت بأنه ليس أمام المشركين إلا الإسلام، وأن أهل الكتاب مخيرون بين الإسلام أو دفع الجزية.
وبهذا يظهر أن الجزية لم تكن قد شُرعت في الفترة التي كان للنبي (ص) فيها معاهدات مع من لم يدخل في الإسلام بعد من القبائل العربية.
3- وما ذكره أخيراً من إكرام النبي (ص) لبعض القبائل العربية بإعطائها بعض الأموال بشكل دوري ممن أطلق عليهم (المؤلفة قلوبهم)، فقد كانت تلك الأموال تدفع لهم من الزكاة لتثبتهم على الإسلام. وهذا مما لا علاقة له بفرض الجزية عليهم أو على سواهم.
وبحسب أبو الفضل تكمن المشكلة مع رؤى الحركات الناشطة في خلطها بين الآراء الخاصة بأصحابها، وتلك التي ينطق بها القرآن والسنة.
وفي كتابه (التمرد والعنف في الشرع الإسلامي) يشير أبو الفضل إلى بعض السوابق التي أسسها الفقهاء لمعالجة أحكام البغاة، وأنهم رجعوا إلى القرآن وسابقة علي بن أبي طالب في هذا المجال، حيث يقول تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.
وبناءً على هذه الآيات فإن الاعتبار الأول في حال نشوء نزاع بين المسلمين هو لوحدة المؤمنين. وينبغي أن يتم التعاطي معه بطرق تضمن إنهاءه وتسويته. ولا يسوغ القتال إلا إذا تمرد أو بغى أحد الفريقين، وحتى وإن تمرد وعصى يبقى التناغم وإصلاح ذات البين هما المرغوب فيهما.
كما وتشير الروايات التي تنقل سياسة علي مع أهل الجمل والخوارج إلى نموذج للصبر المتسق مع الغاية بإعادة السلام بين المؤمنين.
وقد حاول الفقهاء من خلال هذه الأحكام الموازنة بين عدة اعتبارات، فالحكومة تمثل ضرورة بالنسبة إلى المصالح الإسلامية، ولهذا فلابد من عدم الانخراط في العصيان أو البغي. وأما إذا وُوجه المرء بأمر ظالم فينبغي له رفض الامتثال، ولكن يجب عليه الامتناع عن حمل السلاح بوجه الحاكم، لأن ذلك سيتسبب في الفوضى والإخلال بالنظام.
ولكن قد يزداد القمع لدرجة قد يتطلب تحقيق العدالة اللجوء إلى القوة، حيث تدل بعض الآيات على الدعوة إلى القتال للدفع من المضطهدين، كما في قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً}.
وإذا ما جاز القتال تلبية لنداء المستضعفين فإنه يُنصح بالحذر، خاصة عندما يتعلق الأمر بالثورة الكلية. ومع ذلك لا يمكن للمرء أن ينكر على الشعب حقه في الدفاع عن مصالحه في وجه المظالم، وبالتالي من غير الممكن أن يفتى بعدم اللجوء إلى خيار الثورة. وعلى الجماعة التي تثور أن تجعل من إعادة النظام هدفها، وذلك ضمن الإطار المصمم للعدالة.
وبناءً لما يشير إليه أبو الفضل فإن إطار أحكام البغاة لا ينطبق على وضع الجماعات المقاومة المعاصرة. ويكمن الفرق الأكثر أهمية بين الاثنين في الاقتراح الـمُتضمن في إطار الأحكام، والقائل باعتراف البغاة بجامع يشتركون به مع النظام القائم الذي يقر ممثلوه هم أيضاً بوجود ما يتشاركون فيه مع البغاة، إذ يبقى الفريقان أعضاء في جماعة يربط الالتزام الأخلاقي بين أواصرها.
في الحجة الإسلامية والحرب على الإرهاب
ويُبيّن المؤلف في الفصل الأخير إن موطن الضعف الأهم في دعوى النشطاء تمثيلهم للإسلام الحق يكمن في التناقض بين الغاية المعلنة والوسيلة المستعملة، إذ على من يسعون إلى تمكين شرع الله في الأرض أن يحملوا أنفسهم أولاً على الاحتكام لمبادئه وقواعده المسلكية، وإذا ما فشلوا في ذلك فسيكون زعمهم بالانتصار لقضية العدالة الحقة موضع شك وريب.
ومثل هذا الضعف يفسح المجال لمن كان لديهم بديل أن يقدموه، فالمسلمون الديمقراطيون يحتجون بأن التقاليد الإسلامية تقدر أعظم تقدير الشورى والإجماع وحرية المعتقد، وأن السنة لا توثق المسلمين إلى شكل واحد من أشكال النظام السياسي، وإنما ترشدهم إلى التفكير ملياً في دروس التاريخ وعبره.
ولدى هؤلاء أسباب وجيهة لاعتبار أن أكثر أشكال النظام السياسي ملاءمة يقتضي ممارسات ديمقراطية تجيز للمواطنين ممارسة حقوقهم، ولا سيما حرية المعتقد الديني، وبالتالي يتوجب على المسلمين رفض الجهادية القتالية، ومعها كل الصيغ السياسية التي ترتكز على الإكراه الديني، كما عليهم التراص مع أهل الديانات الأخرى لتعزيز قضية الديمقراطية، وهم بذلك ينفذون أمر الله ووصية نبيه (ص)، ويدعمون أسس القيم المتجسدة في ممارسة منطق الشريعة الإسلامية.
وفي هذه الحالة ما هي فرص غلبة المسلمين الديمقراطيين؟
يتوقف الجواب على منطقهم في عرض أفكارهم وتصورهم للنظام السياسي، ومدى توافق تأويلاتهم للسوابق التاريخية مع منطق الشريعة التقليدي، ويمكنهم الاستقواء بموقف النشطاء الذي يسد باب النقاش، باعتبار أنه يعيق عملية التفكير في المعضلات الفقهية.
والصراع بين المسلمين من ناشطين وديمقراطيين ليس حول تأويل النصوص، أو ما يتعلق بطبيعة السابقة فحسب، بل له صلة بأهلية المسهمين في تبيان الملائمة بين الماضي والحاضر، وفي قدرتهم على إقناع الآخرين بأن هذه العلاقة تصلح لاضطلاع الأمة الإسلامية بمهمتها القاضية بدعوة الناس إلى الإذعان لمشيئة الله.
وفي هذا المجال وُوجه المسلمون الديمقراطيون بتحديات كثيرة، فقد أدى ارتباط الديمقراطية بالاستعمار الأوروبي إلى اعتبار المسلمين من يؤيد الديمقراطية خادماً للقمع الذي يمارسه الاستعمار. وفي العهد القريب شكل وضع المسلمين في أوروبا تحدياً جديداً، فما يكابده الأفارقة الشماليون في فرنسا، وطبيعة المعارضة الأوروبية لانضمام تركيا إلى السوق الأوروبية، وقضية سلمان رشدي، والرسوم المسيئة للنبي (ص)، وأزمة الحجاب كانت جميعاً عوامل زادت موقفهم بلبلة والتباساً.
وأما في الولايات المتحدة فقد كانت أوضاع المسلمين خلال الثمانينات والتسعينات توحي للمسلمين الديمقراطيين بمستقبل واعد. ولكن منذ أحداث 11 أيلول أخذت أخبار التمييز العنصري ضد المسلمين، وتداعيات شروط قانون الأمن القومي الجديد تملأ الصحف الإسلامية، خصوصاً وأن (قادة التحالف ضد الإرهاب) قد فسروا النزاع مع الجهاديين المسلمين بأنه صراع بين محبي الحرية ومن يواجهونها بالكراهية.
وكان للعمليات العسكرية في أفغانستان والعراق والمجيء بالديمقراطية إلى الشرق الأوسط أن أثار النقاش بين المسلمين حول عدالة هذه الحرب، والنيات المبيّتة للقوى العظمى. ولذلك عبر المسلمون الديمقراطيون عن القلق من تسبب الحرب على الإرهاب في الإساءة لقضية الديمقراطية بين المسلمين.
وقد عبّر عبد الله النعيم في سلسلة من المقالات عن قلقه من الحرب على الإرهاب، إذ احتج أن هجمات 11 أيلول شكلت انتهاكاً للمعايير الدولية لحقوق الإنسان، وأكد أنه يجب مقاتلة مرتكبيها بطرق تتوافق مع هذه المعايير، وبالتالي ينبغي أن تتضمن الحرب على الإرهاب جهداً منسقاً ينصب على مؤسسات دولية كالأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية، وأن تتضمن العمليات الإسهام الكامل للدول الأكثر تضرراً من عمليات القاعدة وما شابهها.
وإذ لم يُجز القراران الصادران عن مجلس الأمن في أعقاب أحداث 11 أيلول 2001م العمل العسكري ضد قواعد تنظيم القاعدة في أفغانستان، فإن قيام الولايات المتحدة وحلفائها بإجراء انتقامي تأديبي من دون إذن المنظمة الدولية أعطى مثلاً سيئاً عن السياسات الديمقراطية في العالم.
وبذلك تُساهم السياسة الخارجية للولايات المتحدة بتآكل اللوازم الأساسية للتغير داخل المجتمعات الإسلامية، كما تُعزز الشعور بوجود خطر خارجي، الأمر الذي يشجع على تخندق المحافظين. بالإضافة إلى أن هذه السياسة تستحث الشكوك القوية بشأن صحة شعارات حقوق الإنسان العالمية. ومن شأن هذا الإخفاق الذي مُنيت به الشرعية الدولية أن يقوض المقدمة المفاهيمية والسياسية للحجج التي تُساق ضد الأطروحة والممارسة التقليدية للجهاد في المجتمع الإسلامي.
وتدل المؤشرات أن المجاهدين المسلمين والمؤيدين للحكم الإسلامي يعتقدون جازمين إن الحرب على الإرهاب منحتهم فرصة للدفع بمراميهم السياسية وأهدافهم العسكرية إلى الأمام، حيث يعمد القياديين إلى إعادة توجيه الحجة الإسلامية للحرب العادلة ناحية السياسة التي تنتهجها الولايات المتحدة وحلفائها، فقد تضمنت رسالة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد إلى الرئيس جورج بوش الابن في آيار 2006م الإشارة إلى ربط الإيمان بالظهور الوشيك للإمام المهدي المنتظر بإمكانية نشوب حرب نووية، ولكنها مع ذلك تعتبر جزءاً من النقاش الدائر بين المسلمين حول الحرب العادلة.
إذ يتساءل، كيف لمن يدعي إتباع يسوع المسيح ويقدم نفسه للعالم بوصفه نصيراً للعدالة والإنسانية أن يُقحم نفسه في مسلكيات تتنافى مع الدين والأخلاق؟! أيمكن لمن يدعي ذلك أن يضطلع بالهجوم على الدول، فيزهق الناس فيها ويدمرها لمجرد احتمال بوجود مجرمين فيها؟!
ومع أن الإجابة عن هذه التساؤلات بالنفي تبتعد بنا عن الحجج بشأن الحرب العادلة، إلا أن هذه الحجج ترتبط بمسائل السياسة الشرعية، فالأحكام المتعلقة بالقيادة والسلوك تختلف عن تلك المرتبطة باللجوء إلى الحرب، وبتعبير آخر: (إن العمليات العسكرية الأمريكية في كل من أفغانستان والعراق تتضمن أمثلة تعرض فيها المعتقلون لسوء المعاملة والتعسف، أو أمثلة لجأت فيها الولايات المتحدة وحلفائها إلى عنف مفرط وغير متكافئ. ولكن هذه الأمثلة لا تعني بالضرورة إن الحرب كانت لا أخلاقية من حيث المبدأ، كما إنها لا تعني أن الرئيس بوش لم يفد ولا يفيد من المكانة التي تُضفيها عليه السلطة الشرعية، وهي التي تمنحه القدرة على الإجازة بالعمليات العسكرية بالتشاور مع مجلس النواب الأمريكي) (ص 271-272).
ويلاحظ على المؤلف ازدواجيته في التعامل مع الرؤية الإسلامية في قبال الرؤية الغربية لمسألة الحرب العادلة، وهذا ما يمكن استنتاجه من أمرين:
أولهما: أنه في الوقت الذي اعتبر فيه أن الأساليب التي يتبعها الجهاديون المسلمون تجعل عدالة حربهم موضع شك وريب – كما تقدم منه في بداية هذا الفصل – نجده يبرر ممارسات إدارة الرئيس بوش في حربها على الإرهاب بامتلاكه للسلطة الشرعية التي تمنحه الصلاحية لإجازة العمليات العسكرية، دون أن تؤدي ممارساتها السيئة إلى التشكيك في عدالة حربها على الإرهاب.
ثانيهما: أنه تقدم منه في الفصل الثالث أن ما تقرره السوابق الشرعية الإسلامية من أن الحرب هي الوسيلة الأخيرة التي يُصار إليها عند فشل الوسائل الأخرى في نشر الدعوة الإسلامية ليست مرادفاً دقيقاً للمعيار الغربي للحرب العادلة الذي يستصوب الحرب العادلة بوصفها السبيل الوحيد الباقي (انظر ص135)، نجده يبرر لإدارة الرئيس بوش ما مارسته في حربها على الإرهاب بامتلاك الرئيس لشرعية إعلان الحرب. مع أن إدارته لم تبذل جهداً مناسباً للوصول إلى حلول دبلوماسية لمواجهة الاعتداءات التي تعرضت لها الولايات المتحدة. وإذا كان من مبرر لذلك بالنسبة لغزو أفغانستان فإن المبررات معدومة في حالة العراق، إلا بناءً على ما قرره فقهاء الإسلام من ربط مشروعية الحرب بالهدف الذي يراد تحقيقه. وإن كانت مجريات الأحداث تكذب جدية الإدارة الأمريكية في تحقيق الأهداف المعلنة لحربها، والتي تتمثل في نشر الديمقراطية وإقرار مبادئ الحرية.
وثمة ملاحظة أخرى – هنا – وهي: لماذا يقسم المؤلف المسلمين إلى قسمين، إما ناشطين جهاديين، أو ديمقراطيين، مع أن هناك من المسلمين من يؤمن بوجود نظرية إسلامية أصيلة للحكم، وهو في الوقت نفسه يعطي للأفراد في المجتمع الحق في المساهمة في صناعة القرار بما لا يتعارض مع التشريعات الإلهية التي هي ليست محلاً لاجتهادات الفقهاء، بل وثمة خلاف بين هؤلاء في تفاصيل هذه الرؤية.
ويخلص المؤلف إلى نتيجة مفادها: إن توصيف الحرب على الإرهاب وكأنها بين (نحن) غير الإسلامية و(هم) المسلمون هو توصيف خاطئ، فالمسلمون موجودون في كل دول العالم، ويساهمون في العملية السياسية، وبهذا المعنى فإن حججهم بشأن الحرب العادلة هي حججنا أيضاً، وحيث إن قدر المسلمين الديمقراطيين يمكن أن يرتبط بمسلكيات الحرب على الإرهاب فإن السؤال الذي يطرحونه جدير أن يؤخذ بعين الاعتبار.
مع المؤلف في كتابه
وفي نهاية المطاف يمكن تثبيت جملة من النقاط في تقييم ما طرحه المؤلف من آراء وأفكار، بالإضافة إلى الملاحظات التفصيلية التي مرت في ثنايا البحث، يمكن تلخيصها في التالي:
1- يسجل للمؤلف استقلالية شخصيته العلمية عن الاتجاهات السائدة في مدارس الاستشراق الغربي – بجناحيها الأوروبي والأمريكي – في قراءتهم لسيرة النبي محمد (ص)، وكيفية نشوء الإسلام وتاريخه، وأحكامه التي شرعها.
2- يسجل له – أيضاً – تعاطيه الموضوعي مع الأطروحات الإسلامية في مسائل حساسة، كالفتوحات الإسلامية، والحكم بالإسلام، والجهاد، وغيرها، وإن كان منحازاً في بعض تقييماته للرؤى الغربية عموماً والأمريكية خصوصاً، كما نبهنا على ذلك في ملاحظاتنا التفصيلية.
3- لم يقدم المؤلف لقارئه مفهوماً محدد المعالم عن رؤيته للحرب العادلة في الإسلام، بل أغرقه في بحث تفصيلي في هذا الموضوع، كما أنه لم يقم بمقارنته بالمفهوم المعاصر للحرب العادلة من وجهة نظر القانون الدولي، أو العالم الغربي مبرزاً نقاط الاتفاق والاختلاف بينهما.
4- يلاحظ بأن المؤلف غير مطلع بشكل دقيق ومتناسب مع متطلبات بحثه على مجريات التاريخ الإسلامي، وهو ما يخدش في أهلية الباحث لدراسة ومعالجة مثل هذه المسألة الحساسة، كما يلاحظ شح مصادره التاريخية، الأمر الذي انعكس سلباً على معرفته بالتاريخ الإسلامي.
(1) الظاهر أن المؤلف يعبر بـ (منطق الشريعة) للدلالة على الأحكام الشرعية التي يجب على المسلمين الالتزام بها.
(2) التهانوي، محمد علي، كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، تحقيق: على دحروج، ج1، ص 178، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، ط1، 1996م.
(4) المعافري، عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية، تحقيق: جمال ثابت وآخرون، ج2، ص320 – 321، دار الحديث، القاهرة، 2004م.
Leave a Reply