تاريخ بناء الحرمين الشّريفين ورمزيّتهما

الحرمان الشريفان مكانان مقدّسان عند المسلمين، بالنظر إلى رمزيتهما وقداستهما. فالحرم المكي فيه الكعبة والمسجد الحرام قبلة المسلمين، والحرم الثاني هو حرم المسجد النبويّ الشّريف.

الحرمان شاهدان على تاريخ الدّيانات السماوية التوحيديّة مع إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل، عندما بنيا بأمر الله الكعبة كي تكون مهوى أفئدة النّاس، ومكاناً آمناً لعبادتهم، ومظهراً رمزياً ومعنوياً للانقياد إلى طاعة الله وحده، ورفض كل شرك وصنمية مهما تعددت أشكالها .

والحرم النبويّ فيه رسول الله(ص)، خاتم النبيّين، ورسالته خاتمة الرسالات السماوية، وفيها كلّ ما يحتاجه الإنسان في حياته، في انفتاحه على الله وعلى مسؤوليّاته في الحياة.

وإذا ما أردنا الحديث عن تاريخيّة بناء الحرمين الشّريفين، نستحضر ما ذكره العلامة الشّيخ محمد جواد مغنية(رض) عن المسألة بقوله:

“هي أوّل بيت وضعه الله للناس مباركاً وهدى، وأقدم معبد مقدَّس في الشرق الأوسط، فلقد بناه إبراهيم جدّ الأنبياء، وولده إسماعيل: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[البقرة: 127].

وكان إسماعيل يجيء بالأحجار وإبراهيم يبنيها، حتى إذا ارتفع البناء إلى قامة الرّجل، جيء بالحجر الأسود، ووضِع في مكانه.

وتذهب الرّوايات إلى أنَّ البيت العتيق كان حين بناه إبراهيم في علوّ تسعة أذرع، وفي مساحة تبلغ عشرين ذراعاً في ثلاثين، وأنّه قد كان له بابان، ولَم يكن عليه سقف.

أمّا الحجر الأسود، فقيل: إنَّ جبريل أتى به مِن السّماء. وقيل: بل صحبه آدم معه مِن الجنّة حين هبط إلى الأرض، وإنّه كان أبيض ناصعاً، فاسودَّ مِن خطايا الناس. وقيل غير ذلك.

أمّا نحن، فما علينا مِن بأس إذا لَم نؤمن بواحد مِن هذه الأقوال وما إليها، ولسنا مكلّفين بالبحث عن صدقها، ولا بمعرفة مصدر الحجر وسببه. أجل، إنّنا نقدّسه وكفى؛ لأنّ رسول الله(ص) كان يقدّسه ويعظّمه، وإذا سئلنا عن سرّ تقديس النبيّ لهذا الحجر، قلنا: الله ورسوله أعلم.

وأيضاً، ذهبت بعض الرّوايات إلى أنّ الكعبة بقيت على بناء إبراهيم وإسماعيل(ع)، إلى أن جدَّد بناءها قصي بن كلاب؛ الجدّ الخامس للرّسول الأعظم(ص).

وإنّها بقيت على بناء قصي، حتى بلغ النبيّ الخامسة والثلاثين مِن عمره الشّريف، فجاء سيل عظيم، فأخذ جدران الكعبة فيما أخذ، فجدّدت قريش بناءها، ولما ارتفع البناء إلى قامة الرّجل، وآن أن يوضع الحجر الأسود في مكانه، اختلفت القبائل: أيّها يكون لها فخار وضعه؟ وكادت الحرب أن تنشب لولا أن حكَّموا محمداً، فنشر ثوبه، وأخذ الحجر بيده ووضعه فيه، ثمّ قال: “ليأخذ كبير كلّ قبيلة بطرف“. وحملوه جميعاً، حتى إذا حاذى الموضع، تناوله محمد بيده، ووضعه في موضعه.

صلّى الله عليك يا رسول الرّحمة، رفعته بيدك الشّريفة أوّلاً مِن الأرض، ثمّ وضعته بيدك ثانية في موضعه، وأرضيت الله والنّاس، وكان هذا منك دليلاً قاطعاً على أنّك فوق الجميع، وأنّك رحمة للعالمين قَبل الرّسالة وبعدها، وإشارة صريحة بالغة إلى أنّك أهل للرّسالة الإلهية، وأنّ الذين كذّبوك معاندون وجاحدون للحقّ والإنسانيّة.

وبقيت الكعبة على هذا البناء، حتى آلَ الأمر إلى يزيد بن معاوية، وحتى نازعه ابن الزبير ملك الحجاز، فنصب يزيد المنجنيق على جبال مكّة، ورمى الكعبة بعشرة آلاف حجر، فشبّ فيها الحريق، وانتهى الأمر إلى هدمها، فأعاد بناءها ابن الزّبير على ما كانت عليه مِن قَبل بدون تعديل، ونصب حولها سياجاً مِن خشب.

ولما آلَ الأمر إلى عبد الله بن مروان، حاصر الحجّاجُ ابن الزبير وقتله، بَعد أن كان قد هدّم شيئاً مِن الكعبة، وأعاد الحجّاج بناء ما انهدم أو تصدَّع، وغيّر جدار الكعبة عمّا كان عليه، وسدّ أحد أبوابها، وهو الباب الغربي.

وبقيت الكعبة على تعديل الحجّاج حتى سنة 1040 ﻫ، فهطل مطر هتون أودى بجدران الكعبة، فأجمع المسلمون في كلّ مكان على بنائها، وجمعوا التبرّعات مِن شتى الأقطار الإسلاميّة، وأعادوها على الحال التي هي عليها الآن.

مسجد الرّسول: دخل رسول الله المدينة مهاجراً إليها مِن مكّة، ولا شيء له فيها، فبنى أوّل ما بنى المسجد، ثمّ بنى له بيتاً بجواره، وكان المسجد 35 متراً في 30، ثمّ زاده الرّسول وجعله 57 متراً في 50.

ولَم يكن في المسجد منبر حين البناء، فكان إذا خطب استند إلى جذع نخلة كان عماداً مِن عمد المسجد، ثمّ صنع له أصحابه منبراً مِن الخشب بدرجتين. ولما تولى عمر بن الخطاب، زاد فيه 5 أمتار مِن الناحية الجنوبيّة، ومثلها مِن الناحية الغربيّة، و15 متراً مِن الناحية الشماليّة، وترك الناحية الشرقيّة؛ لأنّ فيها بيوت أزواج الرّسول(ص).

وحين تولى عثمان بن عفان هدم المسجد، وزاد فيه على نحو زيادة عمر، تاركاً لأزواج النبي بيوتهن. وبقي على بناء عثمان حتى جاء الوليد بن عبد الملك فهدمه، وزاد فيه مِن كلّ الجهات، وأدخل فيه بيوت الأزواج، ومنها بيت عائشة، فصار القبر الشّريف ضمن المسجد.

وبقي بناء الوليد قائماً إلى سنة 266 ﻫ، فزاد فيه المهدي العباسي مِن الناحية الشمالية زيادة كبيرة، وظلّ على هذه الزيادة إلى سنة 654 ﻫ، فاحترق، وأكلت النيران المنبر النبوي والأبواب وغيرها، وسقط السّقف.

وبَعد ستّ سنوات، تولى الظاهر بيبرس أمر البناء، ورجع المسجد كما كان قَبل الحريق.

وفي سنة 886 ﻫ، انقضّت صاعقة على المسجد فهدَّمته، ولَم تبقِ منه سوى الحجرة النبويّة وقبّة بصحن المسجد.

فأعاد بناءه الملك الأشرف على صورة أحسن ممّا كان عليه قَبل الحريق. وفي القرن العاشر الهجري، رممه السلطان سليم العثماني، وشيّد فيه محراباً لايزال قائماً إلى اليوم، ويقع غربي المنبر النبويّ.

وفي القرن الثالث الهجريّ، بنى فيه السلطان محمود العثماني القبّة الخضراء. وفي أواخر هذا القرن، احتاج المسجد إلى العمارة، فأمر السّلطان العثماني بذلك، وكان المهندسون يهدّمون جزءاً مِن المسجد، ويقيمون ما يحلّ محلّه، ثمّ يهدّمون بعده جزءاً آخر ويقيمون مكانه، حتى تمّت عمارته سنة 1277 ﻫ”. [كتاب “الفقه على المذاهب الخمسة”، الشّيخ مغنيّة، ص 285-288].

وفي سياق متّصل، نستحضر ما ذكره العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض)، عن الآية 127 من سورة البقرة المباركة، بقوله:

“{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ}، ويقيمان الأسس التي يرتكز عليها البناء، في روحيّة خاشعة منفتحة على رضى الله في مواقع القرب إليه، من بناء بيته، وتهيئة الأجواء التي تقرّب النّاس منه وتبعدهم عن مجالات سخطه، لأنَّ المسجد هو المكان الذي يهيّئ للنّاس الفرصة للاجتماع في العبادة، والاندماج في روحيّة الدّعاء وخشوع الابتهال، فكانا يبنيان البيت كما لو كانا في حالة صلاةٍ أو موقف طاعةٍ يبتهلان إلى الله فيها أن يتقبّل منهما ذلك: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} قرباتنا وابتهالاتنا وأعمالنا، {إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الّذي يسمع نجوانا، ويعلم ما في خفايا ضمائرنا ونيّاتنا من المحبّة لك وإخلاص القرب إليك…”.[تفسير من وحي القرآن، ج 3، ص 30].

إنّ استشعار معاني الحرمين الشّريفين، هو استحضار لكلّ معاني الرسالات السماوية القائمة على توحيد الله، وتربية الإنسان على التخلّص من العصبيّات والأنانيّات والجهل، والدخول في طاعة الله دخولاً واعياً يحفظ وجوده وكرامته، ويجعل من روحيّته روحيّة سامية ترتبط ارتباطاً حيّاً بالخالق، بعيداً من الارتباط بالأمور الماديّة الفانية.

 فهل نبتهل إلى الله وندعوه بنيّات خالصة أن يتقبّل أعمالنا، ويدخلنا في رحمته، ويسمع نجوانا، وهو خير من يسمع ويجيب؟

محمد عبد الله

 

إنّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.


*