
ورد في الأحاديث الشريفة ما جعل الصيام منوطاً بالرؤية مما نقله الرواة من السُنّة والشيعة، بحيث أنهم اتفقوا على نقل لفظ واحد ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته …))، إلى درجة قد يُقال معها أنّ لا طريق إلاّ الرؤية، فقد ورد في الخبر عن الإمام جعفر الصادق (ع) ما يجعل تحديد بداية شهر رمضان منحصراً بالرؤية فقال:”ليس على أهل القبلة إلاّ الرؤية، وليس على المسلمين إلاّ الرؤية”(1). ولم يمنع من ذلك إلاّ كون هذا الحصر إضافياً، أو يقال أنّ الرؤية يراد منها العلم.
وهذا ما جعل البعض يمنع من بالاستعانة بمعطيات علم الفلك والتعويل عليه، بدعوى أنّ تحديد الشهور يكون بالرؤية، وهو مما يناله الناس بشكل عفوي طبيعي دون اللجوء إلى العلم الذي لا يناله إلاّ المختصّ، ولا يعقل تعليق الأحكام الشرعية وإناطتها بذلك.
وقد يتغلب على ذلك للخروج من هذا الإشكال بطريقتين اثنتين:
الطريق الأول:
الإبقاء على (الرؤية) طريقاً لتحديد الشهور (ومن ذلك شهر رمضان) مع الإفادة من معطيات علم الفلك، وذلك لأنّ اعتبار الرؤية طريقاً يعني أن المعتبر عند الشارع هو إحراز بداية الشهر على نحو يعلم المكلَّف بتحققه، وليس ثمة فائدة من للرؤية إلاّ ذلك، فإذا كان من الممكن إحراز إمكان الرؤية بطريق علمي وجهد دؤوب بذله ولا يزال يبذله مئات العلماء الفلكيين كان من الممكن إحراز بداية الشهر وبما لا يخالف الأمر بالصوم للرؤية والإفطار لها. غاية الأمر أن ذلك كان يتوقف على خروج الناس للاستهلال والفحص عن الهلال، وأمكن الان تحديده بالوسائل والأبحاث العلمية ومتابعات العلماء.
وليس ثمة شك في دقة هذه الأبحاث وصوابها فتكون وسيلة علمية من وسائل إحراز الرؤية. بل أنها أكثر صواباً من الطريقة التقليدية التي دأب عليها الناس في الاستهلال، إذ بدت اليوم هذه العملية أكثر صعوبة. وربما تعرضت لكثير من الأخطار التي تحيط بها لتجعلها مضللة بدلاً من أنْ تكون وسيلة للإحراز والعلم.
وقد أشبع بحث هذا الطريق في عدد من الشروح وأبحاث التي صدرت وفي مقدمها إفادات سماحة السيد الأستاذ اية العظمى السيد محمد حسين فضل اللّه.
الطريق الثاني:
ربما يتجاوز الرؤية إلى الإفادة من معطيات علم الفلك بدعوى أنّ حديث الرؤية لا ينحصر معناه بالرؤية الحسية البصرية؛ لأنّ للرؤية معانٍ عديدة ومنها ما يعم البصرية إلى الإدراك والعلم ..
وللمناقشة في هذه الطريق يحسن الوقوف على أخبار (الرؤية) لمعرفة ما إذا كان تفسير من هذا القبيل ملائماً لها أو لا؟
والأخبار كما يظهر على نحوين:
الأول: ما يصلح أن يُفسَّر فيها (الرؤية) بالعلم، لأنّ (الرؤية) كما يبدو أخذت في الأخبار بما هي طريق للعمل واليقين، بقرينة الإشارة إلى أنّ غيرها موضع شك وريبة ومما يندرج في الظن والرأي.
ويدل عليه الخبر عن الإمام عليّ الرضا (ع) في حديث قال فيه:”صوموا للرؤية وأفطروا للرؤية”(2)، وعن أبي الحسن العسكري (ع) في حديث قال:”لا تصم إلا للرؤية”(3)، وعن الرضا (ع) أيضاً في حديث انه كتب إلى المأمون:”وصيام شهر رمضان فريضة، يصام للرؤية ويفطر للرؤية”(4).
ويمكن أن تُفسَّر الرؤية في أمثال هذه الروايات بالعلم، إذ أنها لا تأبى ذلك.
ويؤكد ذلك ما ورد من الروايات بلسانٍ يفسّر هذه الرؤية كما في الخبر عن الصادق (ع):”إن شهر رمضان فريضة من فرائض اللّه فلا تؤدوا بالتظني”(5)، وفي حديث عنه (ع) أنه قال:»في كتاب علي (ع) : صم لرؤيته وافطر لرؤيته، وإياك والشك والظن .. “(6)، وفي الحديث: ”شهر رمضان بالرؤية وليس بالظن ..“(7)، بل إنّ ما ورد في بعض الروايات من نفي التعويل على تحقق الرؤية بالعدد اليسير، بل والكثير ما لم يكن شيئاً يدل على المعنى الذي نشير إليه. إذ ورد في الحديث عن الصادق (ع) قال: ”صم للرؤية وافطر للرؤية، وليس رؤية الهلال أن يجيء الرجل والرجلان فيقولان: رأينا، إنما الرؤية أن يقول القائل: رأيت، فيقول القوم: صدقوا“(8)، وفي الحديث عن الباقر (ع) قال:»إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا،وليس بالرأي ولا بالتظني، ولكن بالرؤية، والرؤية ليس أن يقوم عشرة فينظروا، فيقول واحد هو ذا هو وينظر تسعة فلا يرونه، إذا راه واحد راه عشرة الاف ..«(9)، وفي حديث عن الصادق (ع): ”لا تجوز الشهادة في رؤية الهلال دون خمسين رجلاً ..“(10)، وعنه (ع): ”.. ولا تجزي في رؤية الهلال إذا لم يكون في السماء علّة أقل من شهادة خمسين .. “(11) ، وفي الحديث عنه (ع) سأله السائل:”أكون في الجبل في القرية فيها خمسمائة من الناس؟ فقال: إذا كان كذلك، فصم لصيامهم وافطر لفطرهم ..“(12).
والروايات لتي نفت التعويل على الرؤية إلاّ بحصول عدد خمسين أو غير ذلك، وإن حملت على حصول الشبهة أو التهمة، إلاّ أنها تشير إلى أنّ الرؤية ليس لها من خصوصية إلاّ كونها طريقاً لإحراز بداية الشهر والعلم به.
وعليه، فيمكن أن يقال: أنّ هذه الروايات مما ورد فيها (الرؤية) تشير إلى العلم والإدراك والإحراز، ولذلك يمكن أن يدّعي أن الرؤية في هذه الأخبار تعم غير المعنى المعروف المشهور وهو الرؤية البصرية،وبذلك تصدق على الإحراز والعلم وبالشهر عن طريق علم الفلك. ويتحقق ذلك بإحراز ولادة الهلال وخروج القمر من المحاق، ولا دليل على اعتبار تحققه بالإبصار، إلاّ أنّ يقال إن الأحكام الشرعية منزّلة على ما هو المتعارف والمتيسر للناس، وهو ما ورد في قوله تعالى: ﴿يسألونك عن الأهلّة قل هي مواقيت للناس ..﴾، وهو ما لا يحصل بمجرد الولادة، لأنّ ولادة الهلال لا تعرف لكل أحد، فلا تكون ميقاتاً.
وقد ورد عن الصادق (ع) أنه سُئل عن اليوم الذي يقضى من شهر رمضان فقال: “لا يقضه إلاّ أن يثبت شاهدان عدلان من جميع أهل الصلاة متى كان رأس الشهر ..”(13) الذي قد يشير إلى أنّ رأس الشهر إنما يتحدد بما يتعارف عند الناس، وهو ما يحصل بالرؤية وإبصار الهلال لا ولادته.
وإن كان يمكن القول إن للحساب مكاناً مكيناً في حساب الشهر وتحديد بدايته، وما ورد من النهي عن التعويل على أقوال المنجمين لا صلة له بالحساب وأهله، وقد سُئل الإمام (ع) عن الحساب، فلم يتعرض له بالاستنكار كما ورد في خبر محمد ين الحسن الصفار عن محمد بن عيسى، قال: “كتب إليه أبو عمر: أخبرني يا مولاي، إنه ربما أشكل علينا هلال رمضان، فلا نراه ونرى السماء ليست فيها علة ويفطر الناس ونفطر معهم، ويقول قوم من الحسّاب قبلنا: إنه يُرى في تلك الليلة يعينها بمصر وأفريقية والأندلس. هل يجوز يا مولاي ما قال الحسّاب في هذا الباب حتى يختلف الفرض على أهل الأمصار فيكون صومهم خلاف صومنا وفطرهم خلاف فطرنا؟ فوقّع: لا تصومن الشك، افطر لرؤيته وصم لرؤيته”(14). فغاية ما تصدى له الإمام هو النهي عن الصوم والإفطار عن غير العلم، ولم يتعرّض للحسّاب من حيث هو طريقة لمعرفة بداية الشهر، خاصة وأن أهل الحسّاب يومذاك لم يعرف حالهم وما عليه ثقافتهم ورصيدهم العلمي في ذلك. بل يمكن القول أنّ هناك ما يشير إلى عدم شيوع هذا الفن بشكل يمكن تحصيله بشكل متيسر كما هو الان. وربما يمكن استفادة عدم المعرفة بمثل هذه الحسابات وما يتصل بها من خبر السيّاري في ما نقله عن مكاتبة محمد بن الفرج إلى العسكري (ع) وورد فيه تعليقاً على عدّ خمسة أيام بين أول السنة الماضية والسنة الثانية التي تأتي : “هذا الحساب لا يتهيأ لكل إنسان أن يعمل عليه، إنما هذا لمن يعرف السنين .. “(15).
الثاني: ما ربما يأبى تفسيره بالأعم من الرؤية البصرية، كما يظهر في جملة من الأخبار:
– عن الصادق (ع): سُئل عن الأهلّة؟ فقال: “هي أهلة الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم وإذا رأيته”(16).
ونظير هذا الحديث مما يجعل متعلّق الرؤية (الهلال) وعندئذٍ لا يمكن إدعاء كفاية تحديد الشهر بالولادة، لأنّ ذلك مما لا يتاح للناس التماسه من خلال النظر الطبيعي. إلاّ أن يقال إن الرؤية بالوسائل العلمية من مراصد ومناظير مشمول بالحديث.
وعلى كل حال، فالرؤية في هذه الأخبار يُراد منها الرؤية البصرية.
– وعن الباقر (ع) قال: ”إذا شهد عند الإمام شاهدان أنهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوماً أمر الإمام بالإفطار ..“(17).
– وعن الباقر (ع) أنه قال: ”قال أمير المؤمنين (ع): إذا رأيتم الهلال فافطروا أو شهد عليه عدل من المسلمين …“(18).
ونظائر هذه الأخبار بكفاية الشهادة على الرؤية تفيد أن متعلق الرؤية هو (الهلال) وهو يشير إلى أنّ المراد هو الرؤية البصرية الحسية، لأنّ الشهادة لا تقبل في غير موارد الحس.
وإذا حصر تفسير (الرؤية) فيما ورد في هذه الأخبار بالرؤية البصرية، فإنه قد يقال بعدم قبول قول الفلكيين لإثبات بداية الهلال لمجرد الولادة، بل لابد من إمكانية رؤيته، وعندئذٍ يمكن قبول قولهم في تحديد هذه الإمكانية من خلال تجاربهم وأبحاثهم ورصدهم.
وأما إذا قلنا بأنّ (الرؤية) التي وردت الإشارة إليها في الأخبار لم تكن إلاّ الوسيلة الوحيدة المتاحة يومذاك بلحاظ اندراج غيرها في الرأي والتظني ولا خصوصية لها إلاّ من جهة العلم، فيكون من المحتمل تعميم هذه الأخبار لغير الرؤية البصرية. ويحتاج بحث هذا الطريق إلى مزيد تأمل وتدقيق،ولكن يكفي الطريق الأول في الإفادة من معطيات علم الفلك.
محمد الحسيني
هوامش:
(1) وسائل الشيعة، باب 3 من أبواب أحكام الصوم، حديث رقم 12.
(2) الوسائل، باب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان، حديث 5.
(3) المصدر نفسه، باب 3، حديث 25.
(4) المصدر نفسه، باب 3، حديث 26.
(5) المصدر نفسه، باب 3، حديث 16.
(6) المصدر نفسه، باب 3، حديث 11
(7) المصدر نفسه، باب 3، حديث 6.
(8) المصدر نفسه، باب 11، حديث 14.
(9 )المصدر نفسه، باب 11، حديث رقم 11
(10) المصدر نفسه، باب 11، حديث 13.
(11) المصدر نفسه، باب 11، حديث 10.
(12) المصدر نفسه، باب 21، حديث 3.
(13) المصدر نفسه، باب 11، حديث 5.
(14) المصدر نفسه، باب 51، حديث 1.
(15) المصدر نفسه، باب 01، حديث 2.
(16) المصدر نفسه، باب 3، حديث 1.
(17) المصدر نفسه، باب 6، حديث 1.
(18) المصدر نفسه، باب 8، حديث 1.
Leave a Reply