عقلية التطرّف والنزعة السلفية.. قراءة في ضوء رؤية الشهيد الصدر

تمهيد:

بادئ ذي بدء، يجدر بي أن اُذكِّر بمسار البحث، وأني فيه رهينة رؤية الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر، وهو أمر محمود وهو مكرمة أيضاً، ولكنه من جهة التذكير ـ التي قصدتها ـ محدد منهجي يفرض على البحث أن تكون رؤية الشهيد محوراً ومرتكزاً له. هذا أولاً.

وثانياً: فإننا إذا تذكَّرنا أن ظاهرة التطرف والإرهاب بصيغتها الراهنة جديدة، ولم تكن بهذه الحدَّة والتوحش والانفلات، فإننا سنتفهم غياب رؤية واضحة متكاملة منه لظاهرة لم تكن حاضرة وقتذاك بصيغتها الحالية.
ولكن على الرغم من ذلك، فإن هناك أفكاراً متناثرة للشهيد الصدر في مطاوي كتاباته وأبحاثه عالجت هذه المسألة من حيث المبدأ؛ لأن ظاهرة التطرف قديمة، وهي ظاهرة اجتماعية تتصل بالاجتماع الإنساني، وهي ظاهرة نفسية تتصل بعالم الإنسان الخاص.

وهنا اُذكر أن عدداً من نصوص الشهيد الصدر مما يستشهد به اندمج في هذا النص ولا يسعني في القاءة فصله والتنبيه عليه دائماً.

واُذكِّر أنني لم ادخل في تعريف التطرف وما يماثله من اصطلاح تعويلاً على غير أولاً، ولجهة عدم تصدي الشهيد الصدر لإثارة هذا الموضوع.

وعوداً على بدء، عالج الشهيد الصدر ظاهرة التطرف من خلال عدة مسائل وقضايا كانت ولا تزال مثار جدل على المستوى النظري فضلاً عن دورها العملي في حياة المجتمعات عموماً.

أولاً ـ إحدى أهم القضايا التي رأى فيها الشهيد الصدر ظاهرة التطرف هي قضية الشعور القومي، وهو شعور إنساني نبيل غير أن هذا الشعور من وجهة نظر الشهيد ليس «إلاّ رابطة تاريخية ولغوية». (اقتصادنا ص13)
واُولى مظاهر التطرف القومي من وجهة نظر الشهيد هو القفز بهذه الرابطة من كونها إطاراً اجتماعياً إلى إعطائها صفة العقيدة، وبهذه الصفة تكتسب آثاراً اُخرى غير الآثار التي تكتسبها فيما لو كانت مجرد إطار. (راجع: اقتصادنا ص14)

وقد يبلغ التطرف مداه عندما يتحول هذا الإطار إلى مطلق، وإلى مثل أعلى، إذ يقول الشهيد: «حينما اجتمع في التاريخ مجموعة من الأُسر فشكّلوا القبيلة، (و) حينما اجتمعت مجموعة من القبائل وشكلت عشيرة، (و) حينما اجتمعت مجموعة من العشائر فشكّلت اُمّة. هذه الخطوات (كانت) صحيحة في تقدم البشرية وتوحيد البشرية». (راجع: المدرسة القرآنية ص135)

ولكن التطرف بدا واضحاً في تحويل هذه الأُطر إلى مستوى أعلى لا ترقى إليها إذ «كل خطوة من هذه الخطوات لا يجب أن تتحول إلى مثل أعلى، (و) لا يجوز أن تتحول إلى مطلق، (و) لا يجوز أن تكون العشيرة هي المطلق الذي يحارب من أجله هذا الإنسان، وإنما المطلق الذي يحارب من أجله الإنسان هو ذاك المطلق الحقيقي (و) يبقى هو الله سبحانه وتعالى». (راجع: ص135 المدرسة القرآنية)

والشهيد الصدر ـ فيما يبدو لي ـ لا يعترض على الدفاع عن العشيرة أو عن أي إطار اجتماعي آخر، إنما يعترض على هذه الروح المتطرفة التي تعمل على تحويل هذه الأُطر إلى مُثل عليا، وهي مثل مصطنعة وإلى مطلق يستأهل الدفاع والامتثال والتضحية على كل حال.

ويستشهد الشهيد الصدر بقوله تعالى: { مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون} (العنكبوت/41). بل يبلغ التطرف في الشعور القومي ـ من وجهة نظر الشهيد الصدر ـ بأن يدفع باتجاه استغلال كل ما هو نبيل وعام مثل الدين، فيعطى الدين صفة قومية و «يُقدَّم الإله ـ كما في التوراة ـ في إطار قومي كأنه إله هؤلاء. (في مقابل) آلهة الشعوب والقبائل». (راجع: أهل البيت، وحدة هدف وتنوع ادوار ص39)

وعندئذٍ «يُوجِدُ ـ ذلك ـ في نفوس هؤلاء القوم تاريخياً الشعور بالاعتزاز، والشعور بالزهو والخيلاء على بقية الشعوب الأُخرى». (أهل البيت ص39)، وأي تطرف أبلغ من هذا التطرف؟!

هذا التطرف ـ أعني في الشعور القومي ـ كاد يودي بالإسلام أيضاً ـ وفقاً لرؤية الشهيد الصدر ـ حيث بدا «يُنظر إلى النبوة على أنها سلطان قريش، (و) أنها سلطان عشيرة معينة، هذه العشيرة المعَّينة هي التي تجب أن تحكم وأن تسود. (تلك) نظرية مالكية العشيرة، التي تتحدى وجود الأُمّة، وتُنكر عليها أصالتها ووجودها وشخصيتها. هذه النظرية طرحت كمفهوم في السقفية ثم بعد هذا امتدت واتسعت عملياً ونظرياً». (راجع: أهل البيت ص27).

ويشير الشهيد الصدر إلى ما حصل في تبديل بعض الأحكام الشرعية في ضوء هذا الشعور القومي، إذ عمد أحد الخلفاء إلى تغيير تكليف بعض القبائل العربية ذات الانتماء غير الإسلامي بالزكاة عوضاً عن دفع الجزية. (راجع: أهل البيت ص138ـ139)

وبغض النظر عن الموقف الديني لتحويل هذا الإطار من كونه أحد المثل النسبية إلى مثل أعلى، فإن الشهيد الصدر يشير إلى ما يؤول إليه هذا الاصطناع، عندما يتفجرّ هذا المثل على يد صانعيه، بل مجرميه، تلك المرحلة التي تُعدُّ ـ من وجهة نظر الشهيد الصدر ـ أخطر مرحلة تمر بها الأُمّة (الجماعة) عندما يهيمن عليها بعض أبنائها من المجرمين، ويشير إلى (هتلر) كنموذج. (راجع: المدرسة القرآنية ص139)

وهو ليس النموذج الوحيد، والعراق ليس ببعيد في تلك الكارثة التي تتوالى فصولاً.

ثانياً ـ ومن المسائل التي عالجها الصدر كواحدةٍ من أهم منابع التطرف، مسألة الاستبداد والظلم والطغيان.

وقد عالج الشهيد الصدر مسألة الاستبداد على مستويين:

بادئ ذي بدء، يجدر بي أن اُذكِّر بمسار البحث، وأني فيه رهينة رؤية الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر، وهو أمر محمود وهو مكرمة أيضاً، ولكنه من جهة التذكير ـ التي قصدتها ـ محدد منهجي يفرض على البحث أن تكون رؤية الشهيد محوراً ومرتكزاً له. هذا أولاً.

وثانياً: فإننا إذا تذكَّرنا أن ظاهرة التطرف والإرهاب بصيغتها الراهنة جديدة، ولم تكن بهذه الحدَّة والتوحش والانفلات، فإننا سنتفهم غياب رؤية واضحة متكاملة منه لظاهرة لم تكن حاضرة وقتذاك بصيغتها الحالية.
ولكن على الرغم من ذلك، فإن هناك أفكاراً متناثرة للشهيد الصدر في مطاوي كتاباته وأبحاثه عالجت هذه المسألة من حيث المبدأ؛ لأن ظاهرة التطرف قديمة، وهي ظاهرة اجتماعية تتصل بالاجتماع الإنساني، وهي ظاهرة نفسية تتصل بعالم الإنسان الخاص.

وهنا اُذكر أن عدداً من نصوص الشهيد الصدر مما يستشهد به اندمج في هذا النص ولا يسعني في القاءة فصله والتنبيه عليه دائماً.

واُذكِّر أنني لم ادخل في تعريف التطرف وما يماثله من اصطلاح تعويلاً على غير أولاً، ولجهة عدم تصدي الشهيد الصدر لإثارة هذا الموضوع.

وعوداً على بدء، عالج الشهيد الصدر ظاهرة التطرف من خلال عدة مسائل وقضايا كانت ولا تزال مثار جدل على المستوى النظري فضلاً عن دورها العملي في حياة المجتمعات عموماً.

أولاً ـ إحدى أهم القضايا التي رأى فيها الشهيد الصدر ظاهرة التطرف هي قضية الشعور القومي، وهو شعور إنساني نبيل غير أن هذا الشعور من وجهة نظر الشهيد ليس «إلاّ رابطة تاريخية ولغوية». (اقتصادنا ص13)
واُولى مظاهر التطرف القومي من وجهة نظر الشهيد هو القفز بهذه الرابطة من كونها إطاراً اجتماعياً إلى إعطائها صفة العقيدة، وبهذه الصفة تكتسب آثاراً اُخرى غير الآثار التي تكتسبها فيما لو كانت مجرد إطار. (راجع: اقتصادنا ص14)

وقد يبلغ التطرف مداه عندما يتحول هذا الإطار إلى مطلق، وإلى مثل أعلى، إذ يقول الشهيد: «حينما اجتمع في التاريخ مجموعة من الأُسر فشكّلوا القبيلة، (و) حينما اجتمعت مجموعة من القبائل وشكلت عشيرة، (و) حينما اجتمعت مجموعة من العشائر فشكّلت اُمّة. هذه الخطوات (كانت) صحيحة في تقدم البشرية وتوحيد البشرية». (راجع: المدرسة القرآنية ص135)

ولكن التطرف بدا واضحاً في تحويل هذه الأُطر إلى مستوى أعلى لا ترقى إليها إذ «كل خطوة من هذه الخطوات لا يجب أن تتحول إلى مثل أعلى، (و) لا يجوز أن تتحول إلى مطلق، (و) لا يجوز أن تكون العشيرة هي المطلق الذي يحارب من أجله هذا الإنسان، وإنما المطلق الذي يحارب من أجله الإنسان هو ذاك المطلق الحقيقي (و) يبقى هو الله سبحانه وتعالى». (راجع: ص135 المدرسة القرآنية)

والشهيد الصدر ـ فيما يبدو لي ـ لا يعترض على الدفاع عن العشيرة أو عن أي إطار اجتماعي آخر، إنما يعترض على هذه الروح المتطرفة التي تعمل على تحويل هذه الأُطر إلى مُثل عليا، وهي مثل مصطنعة وإلى مطلق يستأهل الدفاع والامتثال والتضحية على كل حال.

ويستشهد الشهيد الصدر بقوله تعالى: { مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون} (العنكبوت/41). بل يبلغ التطرف في الشعور القومي ـ من وجهة نظر الشهيد الصدر ـ بأن يدفع باتجاه استغلال كل ما هو نبيل وعام مثل الدين، فيعطى الدين صفة قومية و «يُقدَّم الإله ـ كما في التوراة ـ في إطار قومي كأنه إله هؤلاء. (في مقابل) آلهة الشعوب والقبائل». (راجع: أهل البيت، وحدة هدف وتنوع ادوار ص39)

وعندئذٍ «يُوجِدُ ـ ذلك ـ في نفوس هؤلاء القوم تاريخياً الشعور بالاعتزاز، والشعور بالزهو والخيلاء على بقية الشعوب الأُخرى». (أهل البيت ص39)

وأي تطرف أبلغ من هذا التطرف؟! هذا التطرف ـ أعني في الشعور القومي ـ كاد يودي بالإسلام أيضاً ـ وفقاً لرؤية الشهيد الصدر ـ حيث بدا «يُنظر إلى النبوة على أنها سلطان قريش، (و) أنها سلطان عشيرة معينة، هذه العشيرة المعَّينة هي التي تجب أن تحكم وأن تسود. (تلك) نظرية مالكية العشيرة، التي تتحدى وجود الأُمّة، وتُنكر عليها أصالتها ووجودها وشخصيتها. هذه النظرية طرحت كمفهوم في السقفية ثم بعد هذا امتدت واتسعت عملياً ونظرياً». (راجع: أهل البيت ص27).

ويشير الشهيد الصدر إلى ما حصل في تبديل بعض الأحكام الشرعية في ضوء هذا الشعور القومي، إذ عمد أحد الخلفاء إلى تغيير تكليف بعض القبائل العربية ذات الانتماء غير الإسلامي بالزكاة عوضاً عن دفع الجزية. (راجع: أهل البيت ص138ـ139)

وبغض النظر عن الموقف الديني لتحويل هذا الإطار من كونه أحد المثل النسبية إلى مثل أعلى، فإن الشهيد الصدر يشير إلى ما يؤول إليه هذا الاصطناع، عندما يتفجرّ هذا المثل على يد صانعيه، بل مجرميه، تلك المرحلة التي تُعدُّ ـ من وجهة نظر الشهيد الصدر ـ أخطر مرحلة تمر بها الأُمّة (الجماعة) عندما يهيمن عليها بعض أبنائها من المجرمين، ويشير إلى (هتلر) كنموذج. (راجع: المدرسة القرآنية ص139)

وهو ليس النموذج الوحيد، والعراق ليس ببعيد في تلك الكارثة التي تتوالى فصولاً.

ثانياً ـ ومن المسائل التي عالجها الصدر كواحدةٍ من أهم منابع التطرف، مسألة الاستبداد والظلم والطغيان.
وقد عالج الشهيد الصدر مسألة الاستبداد على مستويين:

المستوى الأول: بما يتصل بالمستبد نفسه، ذلك الاستبداد الذي يمارسه القوي وما يخلّفه من تناقض بينه وبين الضعيف، الاستبداد الذي لا يرى فيه الشهيد الصدر فرقاً بين أن يكون فرداً كفرعون أو عصابة أو طبقة أو شعباً أو اُمّة؛ لأنه يعتبر «هذه الأشكال المتعددة ذات الروح الواحدة كلها تنبع من معين واحد». (راجع: المدرسة القرآنية ص160).

ويشير الشهيد الصدر إلى الاصطلاح القرآني الذي وصف ظاهرة الاستبداد في إطارها الفكري بـ (الطاغوت)، تلك العملية التي تستهدف حصر الجماعة البشرية في إطار المحدود بعد تحويله إلى مطلق. (راجع: المدرسة القرآنية ص124)

إذ يقول الله تعالى: { وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إلهٍ غيري} (القصص: 38)، { وقال فرعون ما أُريكم إلاّ ما أرى وما أهديكم إلاّ سبيل الرشاد} (غافر: 29)، حيث «يضع ـ فرعون ـ الناس الذين يعبدونه كلهم في إطار رؤيته (و) إطار نظرته، (إذ) يحول هذه النظرة وهذا الواقع إلى مطلق لا يمكن تجاوزه». (راجع: المدرسة القرآنية ص124)

وبتحويل هذا المحدود إلى مطلق يبلغ التطرف منتهاه، ويترك بصماته بصورة واضحة في الجسم البشري، فبذلك التحويل تجزّئ الفرعونية ـ من وجهة نظر الشهيد الصدر ـ المجتمع وتبعثر إمكاناته وطاقاته، وتهدر قدراته على الإبداع والنمو الطبيعي على ساحة علاقات الإنسان مع الطبيعة أيضاً. (راجع: المدرسة القرآنية ص176)
فعلى المستوى السياسي ينقسم المجتمع إلى سادة وكبراء لا قادة، وهم قلة، وإلى مطيعين ومنقادين وهم جمهور الأُمّة، دونما مشاركة في إبداع أو تطوير {قالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا} (الأحزاب: 67) (راجع: المدرسة القرآنية ص 138)

هذا الانقسام الذي يمزق الأُمّة ويفتت وحدتها، وينتهي هذا التطرف بتحويل المحدد إلى المطلق إلى نهاية هذا المثال نفسه، ذلك المثل الذي أُلبس ثوب المطلق والمثل الأعلى. (راجع: المدرسة القرآنية ص129)

ويضيع معه جمهور الأُمّة عندما تتحول إلى شبح اُمّة، وتحل الكارثة فينهار المجتمع. (راجع: المدرسة القرآنية ص180)

وأما على المستوى الاجتماعي ـ في إطاره العام ـ وبما يتصل بتطور المجتمع وازدهاره، فإن قيمومة نظام الاستبداد لن يؤدي إلاّ إلى تعطيل النمو والإبداع الإنساني على مختلف الأصعدة، وخاصة على مستوى علاقة الإنسان بالطبيعة فضلاً عن علاقاته الإنسانية؛ لأن «مجتمع الظلم هو الذي يؤدي إلى انحسار تلك العلاقات». (راجع: المدرسة القرآنية ص174)

إذ لا يتوقع من مجتمع الظلم ـ على مرّ التاريخ ـ ومجتمع الفرعونية ازدهاراً من هذا القبيل؛ لأن «الفرعونية ـ كما يقول الشهيد الصدر ـ التي تبني العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان على أساس الظلم والاستغلال تجزّئ المجتمع (و) تبعثر إمكانيات المجتمع وطاقات المجتمع، ومن هنا تهدر ما في الإنسان من قدرة على الإبداع والنمو الطبيعي على ساحة علاقات الإنسان مع الطبيعة». (راجع: المدرسة القرآنيةص176)

ومع غياب الأُمّة لا نمو ولا ازدهار، «فحركة الأُمّة كلها شرط أساسي لإنجاح أي عملية بناء حضاري جديد وأي معركة شاملة ضد التخلف». كما يقول الشهيد الصدر. (راجع: الإسلام يقود الحياة ص 174).

المستوى الثاني: وبما يتصل بالمستضعفين والمضطهدين فقد لاحظ الشهيد الصدر أن الظلم والاستغلال يكرِّس في جميع أفراد المجتمع الشعور الشخصي بالمصلحة وينمّي فيهم الاهتمام الذاتي بالتملك والسيطرة، غير أن هذا الاستيلاء المحموم على كل ما تمتد إليه أيديهم، وتسخير كل الإمكانات من أجل إشباع هذه المطامع، وينعكس الشعور والاهتمام نفسه سلبياً في المستضعفين على صورة المقاومة الصامتة أولاً، والمتحركة ثانياً، والثائرة ثالثاً على المستغلين، وهي مقاومة تحمل نفس الخلفية النفسية التي يحملها المستغلون، وهذا يؤدي في الحقيقة إلى أن الثورة لن تكون ثورة على الاستغلال وعلى جذوره، ولن تعيد الجماعة إلى مسيرتها الرشيدة ودورها الخِلافي الصالح، وإنما هي ثورة على تجسيد معيَّن للاستغلال من قبل المتضررين من ذلك التجسيد، ومن هنا كانت تغيراً لمواقع الاستغلال أكثر من كونها استئصالاً للاستغلال نفسه. (راجع: الإسلام يقود الحياة ص141ـ142)

وكأن الشهيد الصدر يقول: إن الظلم يجرُّ الظلم، والاستبداد يولّد الاستبداد في الظالمين والمظلومين معاً؛ لأن التطرف لا يخلق إلاّ التطرف، ولا ينجب إلاّ الإرهاب.

وفي هذا الإطار يقول الشهيد الصدر: «ولم يكن من الصدفة أن يوضع العدل أصلاً ثانياً من اُصول الدين ويميَّز عن سائر صفات الله تعالى بذلك، وإنما تأكيداً على أهم صفات الله تعالى في مدلوله العملي ودوره في توجيه المسيرة الإنسانية، وذلك لأن العدل في المسيرة وقيامها على أساس القسط هو الشرط الأساسي لنمو كل القيم الخيَّرة الأُخرى، وبدون العدل والقسط يفقد المجتمع المناخ الضروري لتحرك القيم وبروز الإمكانات الخيَّرة». (راجع: الإسلام يقود الحياة ص130)

ثالثاً ـ ومن أهم منابع التطرف والإرهاب، تضخم الذات وتفشي ظاهرة احتكار الحقيقة، وهي ظاهرة تحدث عنها الشهيد الصدر في سياق حديثه عن عملية تحويل النسبي إلى مطلق، وهي عملية تدخل في صلب وقوام ظاهرة التطرف بما هي تجاوز للحد.

وإذا كان الشهيد الصدر قد تحدث عن ظاهرة الاستبداد ـ مما أشرنا إليه في السياق نفسه ـ بما هي تناقض اجتماعي يقوم على الاستغلال ويستند إلى القوة، فإنه أشار إليها في بعدها الآخر بما هي رؤية تنظّر لاحتكار الحقيقة وتوحيد الناس والبشر في إطار رؤية واحدة، وهي في الغالب رؤية المستبد نفسه، إذ وصف الشهيد الصدر فرعون (كنموذج) بأنه يضع الناس كلهم في إطار رؤيته. (راجع: المدرسة القرآنية ص124)

وهي رؤية لا تقتصر على المستبد في الإطار السياسي وحسب، بل إنها مرض يستشري في المتدينين ـ أيضاً ـ بل ربما يشيع في أوساطهم بدرجة أكبر، فيشير الشهيد الصدر إلى نموذج اليهود حيث يعتقدون (بأن الإنسانية هي كلها في إطارهم). (راجع: المدرسة القرآنية ص162)

دون أن يتوقف الشهيد عندهم، إذ أشار إلى النماذج المتحضرة أيضاً، كما هو شأن الإنسان الأوربي الذي يضع (الدنيا كلها في إطار ساحته الأوربية وساحته الغربية). (راجع: المدرسة القرآنية ص162)

وإذا كان قد أشار الشهيد الصدر إلى فكرة احتكار الإله، ووصف اليهود «بأنهم يحتكرون الله لأنفسهم». (راجع: أهل البيت ص40).

فإن ذلك لن يتوقف عندهم، إذ إن هذه الذهنية سيّالة عند اليهود وعند غيرهم ومن المسلمين، ما يجعلهم سواء.

وللأسف لم أعثر على شواهد عديدة عالج فيها الشهيد الصدر هذه المسألة؛ لأنها ـ كما أشرت ـ لم تكن بمستوى الحضور الذي عليه اليوم، في احتكار للحقيقة لم يعهده ـ ربما ـ عصر ما.

وقد اعتبر الشهيد الصدر أن أهم ما يميز الآخر الذي يواجه الطاغوت ويرفض التماهي معه والانبطاح له هو ذلك الأفق الذي يعيشه، انطلاقاً من قوله تعالى: {والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشّر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعونّ أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب} (الزمر: 17 ـ 18).

فيعلق الشهيد الصدر على هذه الآية: «يعني (أنهم) لم يجعلوا هناك قيداً على ذهنهم، (و) جعلوا الحقيقة هدفهم، ولهذا يستمعون القول فيّتبعون أحسنه. يعني هم في حالة طموح، (و) في حالة تطلع، (و) في حالة موضوعية، في حالة تسمح لهم بأن يجدوا الحقيقة وبأن يبتغوا الحقيقة». (راجع: المدرسة القرآنية ص125ـ 126)

رابعاً ـ وربما لا يناقش أحد في الوشائج التي تربط التطرف بالدين، بما للدين من مفهوم عام، فيكون الدين بهذا المعنى مصدراً من مصادر التطرف وعلى صلةٍ به، إذ قد يقع التطرف بالدين نفسه، وذلك لجهة فهم الدين، وهو أمر يشكّل ظاهرة لا تتوقف عند طائفة، ففي الوقت الذي يدين فيه القرآن الكريم ظاهرة غلو أهل الكتاب، {قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم} (المائدة: 77)، فإنه لا يختص هذا الغلو بهم، وظاهرة الخوارج ليست ببعيدة عن ذلك.

وقد يستغل التطرفُ الدينَ وذلك من خلال اصطناع المثل وإلباسها ثوب الدين؛ لأن «كل مثل أعلى من هذه المثل العليا المنخفضة لا ينفك عن الثوب الديني سواء أُبرز بشكل صريح أو لم يبرز». (راجع: المدرسة القرآنية ص127)

ولذلك يرى السيد الشهيد الصدر أن هناك أدياناً مصطنعة ومزيفة ولكنها تحولت إلى مطلقات، وبتعبير الشهيد الصدر إن هناك إلهاً يفرزه الإنسان ويصنعه {إن } {هي إلاّ أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم} (النجم: 23). (راجع: المدرسة القرآنية ص128)

فإن مثل هذه المُثل بتعبير الشهيد الصدر أقزام متعملقة. (راجع: المدرسة القرآنية ص146)

وعلى مستوى فهم الدين، فإن الشهيد الصدر نبّه إلى بعض المخاطر التي تعترض الفقيه في استكشاف نظرية الإسلام ورؤاه. (راجع: اقتصادنا ص382وما بعدها)

وإذا كان حديثه في إطار استكشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام، فإنه حديث عام ينطبق على المساحات الفكرية الأُخرى، فإن ما أشار إليه من منابع خطر الذاتية للاجتهاد مما أسماه بتبرير الواقع، ودمج النص ضمن إطار خاص، وتجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه، واتخاذ موقف معيّن بصورة مسبقة تجاه النص، فأنه لا يختص بالمورد الذي أشار فيه إليها؛ لأنها تلامس عملية الاجتهاد في مجالات فهم النص الشرعي كلها، وهي عملية معقدة وخطيرة، ولعلّ بعض ما ينسب إلى الدين مما لا صلة به وليد هذه المنابع التي أشار إليها الشهيد الصدر.

خامساً ـ لا يشك اثنان في كون (الجهل) عموماً أحد منابع التطرف، ومنه الجهل بالدين، وهو ظاهرة عرَّضت المجتمع المسلم إلى الاحتراب والتمزق، كما ظهر ذلك في ظاهرة بروز الخوارج، فكان فهم هذه المجموعة المنفعلة للدين ومقولاته ومفاهيمه مشكلة عميقة ومؤلمة.

وفي رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) في ما نسب إليه من عدم قوله بالجهاد، وأنه لا يراه، فقال في جواب ذلك: «… أنا لا أراه؟! بلى والله إني لأراه، ولكنّي أكره أن أدع علمي إلى جهلهم». (راجع: وسائل الشيعة، الحر العاملي 15: 45 باب12 حديث2 “19955”)

ولم يتحدث الشهيد الصدر عن هذه الظاهرة كونها مصدراً من مصادر التطرف، ولكنه مسَّ هذه الظاهرة من حيث كونها مشكلة اجتماعية، وفي بُعدها الاجتماعي، بما يمثله قطّاع الجهل في المجتمع، إذ يستعير الشهيد الصدر تعبير الإمام عليّ ووصفه هذا القطاع بـ (الهمج الرعاع)، ذلك القطاع الاجتماعي الذي يرى الشهيد الصدر فيه معَّوقاً أساسياً لحركة النمو الاجتماعي على مختلف الأصعدة. (راجع: المدرسة القرآنية ص178)

ويشير الشهيد الصدر ـ فيما سنأتي عليه من حديث ـ إلى ضرورة تصفية هذا القطاع عبر تضييق دائرته الاجتماعية.

وإذا غابت معالجات الشهيد الصدر فيما يتصل بهذا الموضوع مما وصلنا من تراثه الفكري، فإننا نسمع مما وصلنا أنه كان يصف بعض ردود الأفعال مما يصدر عن محيطين ومريدين ـ أحياناً ـ بالذهنية الخارجية، نسبة للخوارج.

سادساً ـ وإذا كان قد تحدث الشهيد الصدر عن الاستبداد كونه أحد مصادر التناقض الاجتماعي، وما يؤديه ذلك إلى ما نسميه اليوم بظاهرة الإرهاب، فإنه ـ رحمه الله ـ تحدث في السياق نفسه، وهو سياق تحويل النسبي إلى مطلق، عن (الحرية) وذلك عندما تتحول إلى قيمة مطلقة ومثلاً أعلى، فيقول: «الإنسان الأوربي جعل الحرية هدفاً وهذا صحيح، ولكنه صيَّر من هذا الهدف مثلاً أعلى، بينما هذا الهدف ليس إلاّ إطاراً في الحقيقة، وهذا الإطار بحاجة إلى محتوى وإلى مضمون، وإذا جردّ هذا الإطار عن محتواه سوف يؤدي إلى الويل والدمار، إلى الويل الذي تواجهه الحضارة الغربية اليوم التي صنعت للبشرية كل وسائل الدمار؛ لأن الإطار بقى بلا محتوى، (و) بقى بلا مضمون». (راجع: المدرسة القرآنية ص134ـ135)

وعندما يشير الشهيد الصدر إلى (الحرية) على نحوٍ يجمعها مع ظاهرة الاستبداد، مع أنهما ظاهرتان على تضادٍ تام، فإنه يرى الجامع بينهما في ما تحدث عنه من تحويل النسبي إلى مطلق، وهو يرجع في حقيقته إلى التطرف في التفكير والتطرف في الممارسة. هذا فضلاً عن اعتبار (الحرية) في أحيان كثيرة مظهراً من مظاهر التطرف، وإن لم تكن حاضنة لها كما هو شأن الاستبداد.

تجفيف منابع التطرف ربما يعثر الباحث على عدة مؤشرات ـ في سياق حديث الشهيد الصدر عن المثل النسبية المتعملقة ـ تدخل في إطار ما نسميه اليوم بتجفيف منابع التطرف، والقضاء على مصادره، وهي المرحلة الأهم في عملية مواجهة ظاهرة التطرف.

ونشير إلى هذه المؤشرات باختصار:

أولاً ـ يشير الشهيد الصدر إلى دور الأنبياء في محاربة ما أسماه بالمثل المصطنعة والمنخفضة والتكرارية، تلك الحرب المستمرة التي تستهدف وضع الأُمور في نصابها وعدم تجاوز الحدود المفترضة لها، وهو تعبير عن مواجهة كل تطرف، بما يعنيه التطرف من رؤية مبتورة تدعو صاحبها للانحراف عن المنهج الصحيح في القراءة والتقييم.
ولذلك يعتبر الشهيد الصدر أن مهمة الأنبياء تتمركز في اتجاه تصفية التناقضات الاجتماعية ومصادرها. (راجع: المدرسة القرآنية ص149، ص153، ص160، ص161)

ثانياً ـ ومن مهمات الأنبياء الكبرى ـ من وجهة نظر الشهيد الصدر ـ إرساء قواعد العدل، بما هي شرط ضروري لتحقيق الاستخلاف وإعمار الكون، يقول الشهيد الصدر: «فكلما ازدهرت علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان أكثر فأكثر ازدهرت علاقات الإنسان مع الطبيعة، وكلما انحسرت العدالة عن الخط الأول انحسر الازدهار عن الخط الثاني، أي أن مجتمع العدل هو الذي يصنع الازدهار في علاقات الإنسان مع الطبيعة، ومجتمع الظلم هو الذي يؤدي إلى انحسار تلك العلاقات». (راجع: المدرسة القرآنية ص174)

وربما لا نحتاج إلى ما يؤكد هذه الرؤية، فإن أكبر أزمة يعيشها الإنسان ـ وخاصة في عالمنا العربي والإسلامي ـ هي أزمة العدالة، وما ينتج عنها من احتقان اجتماعي وترهلٍ في مفاصل الحياة كلها.

ولذلك اعتبر الشهيد الصدر «النبوة والرسالة الربانية لا تنفصل بحالٍ عن الثورة الاجتماعية على الاستغلال والترف والطغيان». (راجع: الإسلام يقود الحياة ص144)

غير أن لهذه الثورة النبوية مائزاً أخلاقياً عن الثورات الاجتماعية الأُخرى؛ لأنها تتجاوز مهمة تغيير مواقع الاستغلال على حد تعبير الشهيد الصدر.. لأنها ثورة تهدف إلى استئصال الاستغلال نفسه. (راجع: الإسلام يقود الحياة ص142)

ولذلك تبنَّت الثورة النبوية مسارين للتغيير وتجفيف منابع الاستغلال والإرهاب والطغيان والفساد، أحدهما ما أسماه النبي (رضي الله عنهما) الجهاد الأصغر، وهو مواجهة مواقع ومراكز الفساد من الخارج، والجهاد الأكبر ـ وهو الأهم ـ وهو الذي يستهدف تحرير الإنسان نفسه من نوازع الطغيان والفساد. (راجع: الإسلام يقود الحياة ص34)

ولذلك اعتبر الشهيد الصدر أن الأساس الذي تقوم عليه الثورة النبوية للتغيير هو استئصال المشاعر التي خلقتها ظروف الاستغلال واعتماد مشاعر اُخرى أساساً للثورة، وبذلك يُفترض تميُّز الثائرين في خط النبوة عن الثائرين الآخرين في أنهم لا يحملون الخلفية النفسية التي يحملها المستغلون، ولا ينطلقون من نفس المشاعر والأحاسيس التي خلقتها ظروف الاستغلال، ولذلك تكون ثورتهم ثورة على الاستغلال، بل على جذوره. (راجع: الإسلام يقود الحياة ص142)

وفي هذا السياق تصدر مسألة الوسائل النبيلة للثورة وسلوك طرق شريفة للثورة بعيداً عن الانفعال والانفلات، وهي مسألة تمس اليوم مصداقية الإسلاميين قبل غيرهم، فتتلاشى الخطوط الفاصلة بين التيارات الثورية على اختلاف مراجعها الفكرية، بل تتصدر ـ أحياناً ـ التيارات الثورية الإسلامية اليوم القائمة السوداء في هذا المجال.

وإذا كان الشهيد الصدر قد أجاب عن إشكالية تخلي معظم الأئمة (عليهم السلام) عن الأُسلوب الثوري والعسكري في مجابهة مؤسسات الظلم والطغيان، وأرجعها إلى أنهم «لم يكونوا يرون الظهور بالسيف والانتصار المسلح كافياً لإقامة دعائم الحكم الصالح …(و) أن إقامة هذا الحكم وترسيخه لا يتوقف في نظرهم على مجرد تهيئة حملة عسكرية، بل يتوقف قبل ذلك على إعداد جيش عقائدي يؤمن بالإمام وعصمته إيماناً مطلقاً ويعي أهدافه الكبيرة ويدعم تخطيطه في مجال الحكم ويحرس ما يحققه من مكاسب». (راجع: اخترنا لك ص68)

فإنه ـ أعني الشهيد الصدر ـ وإن كان يجيب عن هذه الإشكالية التاريخية التي مضت عليها قرون عديدة ـ فإنه ـ فيما أُقدَّر ـ يجيب عن إشكالية سياسية قائمة في أوساط بعض الإسلاميين، تلك الأوساط التي تستعجل تسلّم السلطة وتتطلع إليها دونما مقدمات، بل يبلغ تطلع بعضهم إليها حدّ النزوة والشهوة، وتمارس في سبيل ذلك وسائل غير شريفة وبعيدة عن النزاهة، بل تتعارض كلية مع مبادئ الإسلام نفسه.

ثالثاً ـ تحديدات الشهيد الصدر للعمل الإسلامي تعبَّر عن رؤية إسلامية أصيلة تبتعد عن منهج التطرف الذي ساد أوساط المسلمين لفترات طويلة ولا يزال.

إذ يظهر التطرف في مسألة التعاطي السياسي باتجاهين متعاكسين، فيجد الباحث موقف جمهور الفقهاء من أهل السنة الذي يُحرَّم الخروج على الحاكم الجائر وفق رؤية فقهية لسنا بصدد الحديث عنها، ويجد الباحث في الوقت نفسه عند فقهاء آخرين من أهل السنة من يقول بتحريم المكاسب والتجارات، وإنه لا يجوز بيع ولا شراء في ظل الحاكم الجائر، وهو رأي خطير ويقود إلى أزمات كبيرة. (راجع: مقالات الإسلاميين ص467 ـ 468)

وإذا صُنِّف الشهيد الصدر في منهجه السياسي على تيار الثوريين، فإنه من موقعه الفقهي نظر للوسطية في هذا المجال، إذ في الوقت الذي كتب فيه في (الأُسس الإسلامية) عن ضرورة التصدي لانحراف الحاكمين، فإنه نبّه على أن لا يكون هذا التصدي موجباً للحرب الداخلية. (راجع: الأسس الإسلامية: الأساس (4) من المنشور في كتاب محمد باقر الصدر، حياة حافلة.. فكر خلاّق..)

وتحديد من هذا القبيل يُعدُّ ضماناً لخط العمل الإسلامي والعاملين فيه، لئلاّ يتحول العمل الإسلامي ـ كما هو حالياً ـ إلى أشبه ما يكون بالعبث، بل بالتوحش.

ومن هذه التحديدات كشرط ضروري لحماية مسيرة العمل الإسلامي ما أسماه الشهيد الصدر بدور (الشهيد) في هذا المجال، بما يعنيه الشهيد من مرجعية فكرية وتشريعية يمثلها النبي أو الإمام أو من ينوب عنهما وهو (العالم)، وذلك «لتعديل المسيرة أو إعادتها إلى طريقها الصحيح إذا واجه انحرافاً في مجال التطبيق». (راجع: الإسلام يقود الحياة ص133)

وكأنه يستشرف ما نحن فيه اليوم من غياب دور العلماء في مسيرة العمل الإسلامي (بغض النظر عن العوامل التي أدت إلى ذلك)، ونزوّ عدد من أنصاف المتعلمين لقيادة هذه المسيرة لتصل بالعمل الإسلامي والإسلام إلى الحضيض.

رابعاً ـ ويندرج في إطار عملية تجفيف منابع التطرف ما يسميه الشهيد الصدر تبعاً للغة القرآنية باتّباع الأحسن، كما في قوله تعالى: { فبشّر عباد الذين يستمعون القول فيّتبعون أحسنه} (الزمر: 17 ـ 18)، هؤلاء الذين وصفهم الشهيد الصدر ـ تبعاً للوصف القرآني ـ بحرية الفكر، وهم الذين «لم يجعلوا قيداً على ذهنهم، (و) لم يجعلوا إطاراً محدوداً لا يمكنهم أن يتجاوزوه، جعلوا الحقيقة مدار همّهم…. (و) هدفهم». (راجع: المدرسة القرآنية ص125)

ووصف من هذا القبيل يقابله الانغلاق على رؤى معينة ومحاولة تعميمها وفرضها على الآخرين، والانطلاق منها وبها إلى تقييمات ومواقف تجاه الآخر.

ولذلك ينعى الشهيد الصدر على هؤلاء الذين يرون نهاية العالم حيث تنتهي ساحتهم، ويرون أن الإنسانية كلها في إطارهم، لا فرق بين اليهود كما في الوصف القرآني: { ليس علينا في الأميين سبيل} (آل عمران: 85)، فيحددون مراكز الناس وفقاً لقناعاتهم، وبين الإنسان الأوربي الذي يرى نهاية العالم حيث تنتهي ساحته. (راجع: المدرسة القرآنية ص162)

وهي رؤية سيّالة يتساوى فيها أصحابها على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم ومشاربهم، ولا يجمعهم إلاّ احتكار الحقيقة وتصديق أنفسهم.

لقد رأى الشهيد الصدر في عملية توحيد الناس في رؤية ما وفرضها على الآخرين دونما حق، افتئاتاً على الحقيقة وتدميراً للإنسانية وتعويقاً لمسيرتها؛ لأن رؤية من هذا القبيل لا تندرج إلاّ في تحويل النسبي إلى مطلق، ومحاولة فرضه في وقت يكفّ فيه أن يكون مصدراً للإشعاع، وهو يساوق التطرف ويلتقي به.

وفي الختام أُذكِّر من جديد أن ظاهرة التطرف في صيغتها الحالية وما تولّد عنها من إرهاب سواء على المستوى الديني أو الاجتماعي أو السياسي، لم تكن بهذا المستوى من الحضور بحيث تكون هاجساً لمفكر بمستوى محمد باقر الصدر، ولذلك لم ترد في أبحاثه وكتاباته معالجات صريحة ومباشرة في هذا الموضوع.

ولكن مع ذلك، هناك ما يمس هذه الظاهرة على مستوى المصادر والمنابع أو على مستوى التجليات، وقد حاول البحث أن يستجمع هذه المعالجات في مركبٍ نظري أُعطي عنوان (التطرف من وجهة نظر الشهيد محمد باقر الصدر) وإن كان البحث في مجمله بحثاً استنتاجياً.

السيد محمد الحسيني

البحث منشور في مجلة المنهاج، العدد : 45، السنة الثانية عشر ربيع 1428هجـ 2007 م.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.


*