مفهوم تاريخي للإنسانية في ضوء الحديث عن الإمام الصادق (ع)

(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)

وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع) حين سأله سائل عن البشر: (أفضلالاً كانوا قبل النبيين أم على هدى؟ فأجاب (ع): لم يكونوا على هدى، كانوا على فطرة الله التي فطرهم عليها لا تبديل لخلق الله، ولم يكونوا ليهتدوا حتى يهديهم الله، أما تسمع بقول إبراهيم لئن لم يهدني ربي لأكونن من الضالين).
إن لهذه الآية الكريمة معطيات علمية كثيرة في الحقل التأريخي، وكلما تعمق الباحث الإسلامي في دراستها انتهى إلى مفاهيم ثرية يستطيع في مفهومها أن يحدد نظرة الإسلام إلى المجتمع والتأريخ، وإلى الأديان والنبوات، ولا نريد في دراسة سريعة تتطلب شيئاً من التبسيط والاختصار كهذه الدراسة أن نستوعب المدلول الاجتماعي الكامل للآية، وإنما نتناول جانباً واحداً عالجت فيه الآية نقطة أساسية في البحث التاريخي تتصل بفجر التأريخ ومطلع الحياة الاجتماعية في قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة) وعلى ضوء ما جاء عن الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) في تفسير هذا الجانب القرآني من الآية نستطيع أن نحدد المفهوم الإسلام عن مطلع الإنسانية وحياتها الاجتماعية الأولى، فالإنسانية كانت أمة واحدة ثم اختلفت، فما هي هذه الوحدة التي اكتنفت البشرية في عهدها الأول؟ وما هي طبيعتها؟ وكيف تفتتت؟ وما هي العوامل في نشوئها وزوالها؟

إن البشرية كانت أمة واحدة في معيشتها وحياتها، ولم تنزل الشرائع الإلهية إلا بعد أن تفسخت هذه الوحدة ودب الخلاف في مختلف مرافق الحياة الإنسانية، فإرسال الأنبياء بالكتب والشرائع كان مرحلة متأخرة عن ذلك الدور الذي عاشت فيه البشرية أمة واحدة ، فماذا كانت تعني تلك الوحدة؟ إنها ليست وحدة الهداية والحق، إذ لو كان البشر أمة واحدة مجتمعة على الحق والهداية لما كان ضرورياً بعد إرسال الأنبياء الذي نشأ عنه الاختلاف والتفرق كما يدل عليه قوله: (وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم) فلماذا الرسالات والمرسلون، إذا كانت شريعة الحق هي الشريعة الاجتماعية للبشر؟!
كما أنه لا يستقيم –مع الآية- أن نفترض تلك الوحدة البشرية الأولى وحدة ضلال وبغي؛ لأن المفهوم من الآية الكريمة أن الاختلاف القائم على أساس البغي والضلال إنما حصل بعد إرسال الأنبياء وإنزال الكتب.
ومن ناحية أخرى: إذا لاحظنا الآية الكريمة نجد أنها تبرر إرسال الأنبياء وإنزال الكتب بوجود اختلاف يجب أن يعالج عن طريق الرسالة السماوية، كما يدل على ذلك قوله تعالى: (وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه)، وهذا الاختلاف الذي أرسل الأنبياء لمعالجته، غير الاختلاف الذي نتج عن ظهور النبوات والأديان في حياة الإنسان، والذي أشار إليه في الآية الكريمة بقوله تعالى: (وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم).
وهذه نقطة جديرة بالدرس أيضاً، إذ قد تبدو الآية على شيء من الغرابة؛ لأنها ذكرت أن الناس كانوا قبل إرسال الأنبياء وإنزال الكتب أمة واحدة فمن أين وجد هذا الاختلاف الذي أنزل الكتاب وبعث النبيون لمعالجته؟
والجواب المقبول على هذا السؤال هو أن تكون الوحدة التي مرت بها البشرية هي بنفسها سبباً للاختلاف ومثاراً للتفرق، فما هي تلك الوحدة التي تكون بطبيعتها مؤدية إلى الاختلاف والتفرق؟ ونحن إذا عرفنا هذه الوحدة نستطيع أن نفهم السبب في تفريع بعث النبيين وإنزال الكتاب على تلك الوحدة، فإن تفريع ذلك على الوحدة إنما هو بوصفها سبباً للاختلاف.
وتذوب المشكلة إذا عرفنا أن تلك الوحدة التي مرّت بها البشرية في مطلع الحياة الاجتماعية هي الوحدة الفطرية، لا وحدة الضلال ولا وحدة الهدى، كما يدل على ذلك ما جاء في الحديث عن الإمام الصادق حين سأله سائل عن البشر: (أفضلالاً كانوا قبل النبيين أم على هدى؟ فأجاب (ع): لم يكونوا على هدى، كانوا على فطرة الله التي فطرهم عليها لا تبديل لخلق الله، ولم يكونوا ليهتدوا حتى يهديهم الله، أما تسمع بقول إبراهيم لئن لم يهدني ربي لأكونن من الضالين).
فالمجتمع الإنساني-وفقاً لما تقرره الآية في ضوء هذا الحديث-كان مجتمعاً فطرياً، وكانت الوحدة التي تشمله هي وحدة الفطرة المشتركة بين كل الأفراد، بمعنى أن الفطرة هي التي كانت توجه السلوك الإنساني العام، وعلى أساسها قامت الحياة الاجتماعية، ثم على أساسها أيضاً تصدعت هذه الحياة، ودب فيها الخلاف والنزاع، الأمر الذي عولج ببعث النبيين وإنزال الكتب، والسؤال الآن هو: كيف قام المجتمع على أساس الفطرة؟ وكيف أدت الفطرة إلى الاختلاف والتفرق؟
تاريخ البشرية يبرهن على أنّ مدارك النوع الانساني – بوصفه نوعاً – لم تعطَ له دفعة واحدة، وإنما تنمو وتتكامل مداركه خلال التجربة التي تخوضها الإنسانية عبر آلاف السنين، ومن الطبيعي أن نتصور الإنسانية في بداية شوطها التجريبي، وهي لا تملك من المعرفة والخبرة إلا المقدار الذي توحي به فطرتها الخاصّة في حدود نظرتها الضيّقة إلى الحياة والكون.
فالذي يتحكّم في سلوك الإنسان في هذه الحالة الفطرة التي تحدد له دوافعه وتصوراته البدائية، ومن الواضح أن حب الانسان لنفسه الثابت في صميم فطرته هو القوة الموجّهة الأساسية في حياة الإنسان، وهذه القوة هي التي تهدي الإنسان إلى استخدام الطبيعة لمصالحه والانتفاع بكل ما حوله، ومن هنا ينبثق التفكير الاجتماعي عند الإنسان لأن الإنسان يجد أن بإمكانه الانتفاع بأخيه الإنسان أيضاً كما ينتفع بالحيوان والنبات والجماد، ولما كان هذا الشعور متبادلاً بين أفراد الإنسان فيتكون المجتمع الإنساني على أساس هذا الشعور النابع من الفطرة، وبذلك يكون المجتمع فطرياً ومن الطبيعي أن يستمر المجتمع الفطري على هذا الأساس مدة من الزمان تسوده الوحدة لأن البشر في تلك المرحلة الفطرية لا يملكون من المعارف والتجارب في شؤون الحياة ووسائلها وطرقها إلا الشيء المحدود الذي لا يتجاوز الفطريات وبعض المكتسبات البدائية، الأمر الذي كان يجعل الإنسان يتغذى من أعشاب الأرض ونباتها ويتسلح بالأحجار والصخور، ويلوذ بالكهوف والمغارات، ويصطاد أنواعاً متعددة من الحيوانات .
والمجتمعات الفطرية التي لا تتجاوز هذه الحدود لا يظهر فيها الاختلاف لبساطة آمالها وبدائية همومها ومفاهيمها ومحدودية وسائلها ومجالاتها .
ولكن بعد أن تستمر الانسانية وتواصل تجاربها يتفتح وعيها التأملي والعملي وتتسع مجالاتها الحياتية وتنمو آمالها وتتعقد آلامها فتخرج بذلك عن الحالة الأولى وتصبح نفس القوة الفطرية التي كانت توحي إلى الناس بالاجتماع والتعاون وهي حب الذات سبباً في إثارة النزاع والصراع لأنّ الناس عبر اجتماعهم الفطري سوف يختلفون في تجاربهم وإدراكاتهم، ويتفاوتون في مواهبهم وقواهم، وكل ذلك يجعل غريزة حب الذات تدفع الإنسان الى صرف امكاناته التي يمتاز بها على الأفراد الآخرين في سبيل مصالحه الخاصة، وفي النهاية تدفعه إلى استخدام الأفراد الآخرين لتحقيق تلك المصالح .
وهنا يصبح من الضروري قيام حكومة تحافظ على وحدة المجتمع وتماسكه وتقف في وجه الاتجاه الجديد إلى الصراع والنزاع، ولا يمكن أن تنبثق هذه الحكومة الهادية من نفس المجتمع الانساني؛ لأن مصدر المشكلة لا يمكن أن يضع لها الحل، وهكذا يجيء دور حكومة الأنبياء بوصفها العلاج الوحيد للمشكلة.
ونخلص من ذلك إلى: أن الإنسانية مرت في فجر حياتها الاجتماعية بدور المجتمع الفطري القائم على أساس الفطرة وهدايتها، وخلال تجربتها الاجتماعية هذه تكامل وعيها، ونمت خبرتها، فأصبحت الفطرة عاجزة عن ضمان الكيان الاجتماعي والحفاظ عليه، بل عادت سبباً لتصديعه وخلق ألوان الصراع هنا وهناك، وعند ذلك انتقلت الانسانية من دور المجتمع الفطري الى دور المجتمع الموجه الذي يقوده الأنبياء (عليهم السلام).

السيد الشهيد محمد باقر الصدر

المصدر: مجلة الأضواء، السنة الأولى، العدد 20-21

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.


*