الدّينُ في قلبِ حركةِ التّطوّرِ والتّغييرِ

إنَّ قضيّة التطوّر الفكري والتشريعي في حياة كلّ أمّة، ليست وليدة حركة حتميّة خارج نطاق الأفكار والمبادئ المطروحة في الحياة، وليست عملاً غيبيّاً ينطلق من المجهول، بل هي قضيّة سنّة الله في الأرض التي جرت على أن تتقدّم الأفكار والمبادئ إلى السّاحة، من خلال كونها ردود فعل لواقع فاسد، أو لارتكازها على قوّة مادية أو ظروف طبيعية طارئة، ما يجعل لحركة الإنسان الذي يؤمن بالفكرة، أساساً قويّاً في وجودها ونموّها واستمرارها، ويبعد القضيّة عن أن تكون حركة تخضع لما يسمى بالحتمية التاريخية، أو أيّ حتمية أخرى مما تعارف الناس على أن يفسّروا به تطوّر التيارات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة.

وهكذا، تتحوّل الأفكار إلى واقعٍ حيٍّ يدخل وجدان النّاس وعاداتهم وتقاليدهم، ثم تمتدّ لتكون الطَّابع المميَّز للعصر بفعل سيطرة القوى التي تدعمها وتؤيّدها على مقدِّرات العصر في الجوانب التشريعية والتنفيذيّة، فيخيّل إلى النّاس أنّه الواقع الحتميّ الذي لا يمكن تجاوزه والانحراف عنه إلّا على حساب تقدّم الحياة وتطوّرها، باعتبار أنَّ الواقع المطروح هو الّذي يمثّل مقياس التقدّم والرقيّ في نظرهم!

وعلى أساس ذلك، يُطلب من الإسلام، باعتباره من التيّارات الدينيّة الروحيّة الاجتماعيّة، العمل على الاندفاع في حياة النّاس ومواكبة تطوّرهم، باعتبار ذلك من الأمور الحتميّة التي يتطلّبها العصر.

وبناءً على الإشكال الذي طرحناه حول مفهوم الحتميّة، حيث اعتبرناه أمراً متعلّقاً بموازين القوى وبظروف محدَّدة، وليس نابعاً من طبيعة الأشياء، فقد يكون من وجهة نظر المفكّرين المسلمين، أنّ التطوّر الذي ينطلق من خلال الأفكار المادية في اتجاهاتها الأخلاقية والاجتماعية والسياسية، لا يسير في الاتجاه الصّحيح لمصلحة الإنسان، لأنّه يفرز الكثير من المخاطر والآلام والمتاعب في حياة البشريّة، من دون أن يقدّم إليها الراحة النفسية التي تجعل من الحياة شيئاً مريحاً معقولاً، الأمر الذي يدعونا إلى القيام بتغييره إلى مسارٍ آخر يأخذ في حسابه حياة الإنسان ككلّ، ولا يركّز على جانب واحد من جوانبها، لتسير الحياة على إرادة الله.

إنّنا لا نعرف أيّ معنى لموافقة الكثيرين على إفساح المجال لمفاهيم الثّورة والتّغيير ضد الواقع الرأسمالي لمصلحة التفكير الماركسي والاشتراكي، وذلك لحرف اتجاه التطور إلى مسار آخر ينسف أعمدة الحضارة الرأسمالية لمصلحة الحضارة الجديدة، ولكنّهم في الوقت ذاته، لا يوافقون على إفساح المجال لمفاهيم الإسلام أن تقوم بعمليّة التّغيير الشاملة.

إنّ الفكرة التي نريد أن نقرّرها باختصار، هي أنَّ الحياة عندما تتطوّر على أساس مفاهيم خاصّة معيّنة خاضعة لمبادئ مميّزة، لا يمكن أن تفرض نوعيّة هذا التطوّر على مبادئ أخرى تختلف في مفاهيمها عن تلك المبادئ التي ساعدتها الظروف على تخطيط برنامجها للحياة، استناداً إلى القوّة أو أيّ شيء آخر غيرها. ولذا، فإنّ من يطلب من الإسلام التغيير على أساس مفاهيم الواقع المعاصر، كمن يطلب من الاشتراكيّة أن تتغيّر وتتطوّر على أساس المفاهيم الرأسماليّة وأفكارها.

إنّ الفكرة التي تحاول استبعاد الدّين من دائرة الصّراع من أجل التطوّر والتّغيير، انطلقت من الذهنيّة العامّة المنحرفة التي حصرت دوره في نطاق ضيِّق ودائرة محدودة، لا تتّسع إلا بقدر ما تتّسع له الأخلاقيّات القائمة، أي العمل على التّخفيف من قساوة الحياة الفرديّة والاجتماعيّة وبؤسها، لكن من بعيد، ومن دون أن تلامس المشاكل بواقعيّة وقوّة، وهو طرح مثالي يمنح الإنسان الشعور بالراحة من غير حلّ للمشكلة.

ولهذا، فإننا نعتقد بضرورة التخطيط لإخراج الوعظ والتوجيه الإسلامي إلى دائرة المواجهة المباشرة لقضايا الحياة ومشاكلها، لأنّ ذلك هو السّبيل لوضع التغيير الإسلامي في إطاره الطبيعي الذي لا يبتعد عن النصوص في الكتاب والسنَّة، ولا يخرج عن روحها، ويبقى في الوقت ذاته ليحقّق للحياة السّعادة والخير والسّلام، وقد يكون هذا هو الهدف الّذي سعى إليه المفكّرون المسلمون الملتزمون الذين يعتبرون أنَّ الإسلام يقدِّم رؤية شاملة عن الكون والحياة، عندما يطرحون قضية الاجتهاد المعاصر.

العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله
*من كتاب “الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل”.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.


*