
لعلَّ من أكثر المفاهيم رواجاً في العصر الحديث هو مفهوم التقدم، الذي لا تجد أحداً إلاّ وهو يرفعه شعاراً، ويتخذه عنواناً لحركته ومشروعه، سواء أكان هذا المشروع سياسياً أم اجتماعياً أم اقتصادياً أم علمياً. . ويكاد يكون مألوفاً إلى درجة يحار البعض في التعريف بحقيقته، وكأنه من بديهيات العصر ويقينياته التي لا خلاف عليها ولا يدخل الريب إليها.
وتنطوي فكرة التقدم على الإيمان بقدرة الإنسان على بلوغ الكمال، والسير نحو الهدف الأكمل، والوضع الأحسن، ويعني ذلك قابلية الإنسان على الانتقال من أوضاع ومراحل إلى أوضاع ومراحل أكثر منها حصيلة وذخيرة. ولعلّ في المأثور ما يشير إلى ذلك “مَنْ تساوى يوماه فهو مغبون” بمعنى أن الإنسان لا يعتبر في مرحلة متقدمة إلاَّ إذا كانت هذه المرحلة أحسن من سابقتها، بل لا تعتبر كذلك في حالة التساوي كما ورد في الحديث الشريف.
هذا الموضوع أثار جدلاً واضحاً في الموقف الإسلامي من فكرة التقدم، وهل ينزع الإنسان المسلم على خلفية الأفكار الإسلامية إلى التطلع نحو المستقبل، أم أنه ينطوي على نفسه بتأثير من تلك الأفكار التي تثير في نفسه النزوع نحو الماضي وتقديس الأسلاف؟!
عدة أقلام – تنطلق من موقع الخصومة الفكرية أو النفسية مع الرؤية الإسلامية – حاولت بتعمد أو براءة الإجابة على هذا التساؤل. وقد وجدت في حياة المسلم ما يدعوها إلى الاعتقاد بسلبية الموقف الإسلامي من مسألة التقدم.
الدكتور طيب تيزيني أدلى بدلوه في هذا المجال، فخرج بنتيجة لا تختلف عن موقف كثير ممن يشترك معهم في الخصومة للرؤية الإسلامية، فرأى أن الأفكار الإسلامية من شأنها تقييد الإنسان المسلم وشده إلى الماضي – النموذج المطلق، وقتل كل تطلع إلى المستقبل، فهو – أي الإنسان المسلم – يركض إلى الوراء بتأثير من الأفكار الإسلامية حسب اعتقاده.
وفي هذا المجال تبرز عدة نصوص من كتابات الدكتور تيزيني تؤكد هذا الاعتقاد فيقول: “تظهر السلفوية أولاً كدعوة دينية للانكفاء نصياً وثوقياً إلى الأصول الأولى، وأحياناً أخرى عديدة إلى الفروع الدينية (الإسلامية، المسيحية، واليهودية كذلك) في أشكالها الأولية، وكدعوة إلى رفض وإدانة أية محاولة للاجتهاد فيها، ووضعها موضع التأويل العقلي”(1)، و”إنَّ الماضي يبرز هنا، مبدأً وأخيراً، منطلقاً وغاية لكل فعالية، إنه بقول آخر، المخول والقادر، أصلاً، على إكساب كل فعل إنساني مهما كانت أبعاده وآفاقه وبواعثه، اعتباره ومشروعيته. ومن هنا يتضح أن (الماضوية) تمثل عنصراً حاسماً في بنية (السلفوية)(2).
“فإن الزمن يسير من الجيد إلى السيئ فالأسوأ، ومن ثم فنحن أمام صورة كونية تفرض نفسها علينا فرضاً”(3).
ويذهب إلى “أنَّ اختتام النبوة بشخص محمد ينطوي على التأكيد بأنَّ أسرار البشرية قد استقرت أخيراً في القرآن والحديث المحمدي. وما على هذه البشرية – إن طمحت إلى حلَّ مشكلاتها التي تحفّ بها من كل صوب وحدب – إلاَّ الانكفاء إلى الخلف مجدداً ودائماً، إذ في ذلك فقط تكمن “فاتح الوجود عموماً”(4).
ويحاول الدكتور تيزيني أن يستدل على نظريته هذه بآيات قرآنية وأحاديث نبوية فيقول: >ففي القرآن آيات تشير دونما لبس إلى رفض كل أشكال ومظاهر التفكير العقلي المستقل: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى : 10]، وضمن هذا السياق جاء في حديث محمدي: “أكثر ما أخاف على أُمتي بعدي رجل يتأول القرآن“(5).
وفي ضوء الحديث النبوي يقول تيزيني: “وقد عبَّر محمد عن هذا الموقف الإتباعي، موقف الرجعة، في الحديث التالي: “خير القرون، القرن الذي أنتم فيه، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه“. ففي هذا القول يسهم محمد إسهاماً خاصاً في بلورة السلفوية في صيغتها الدينية وإن لم يكن بوضوح في المقصد الفلسفي”(6).
طبعاً لا نريد أن نتعجل التعليق على هذه النصوص، وسنرجئ ذلك إلى صفحات لاحقة، إذ سنكشف طبيعة هذه القراءات والدوافع النفسية التي تدفع بها.
اتجاه آخر – ينطلق أيضاً من موقع الخصومة الفكرية أو النفسية مع الرؤية الإسلامية – حاول تصوير الموقف الإسلامي من فكرة التقدم على ضوء فكرة (القضاء والقدر)، ليصل إلى نتيجة متقاربة مع الاتجاه السابق، فالمؤمن “بقدر ما ينسب.. لمعبوداته من جبروت بقدر ما ينسب إلى نفسه من عجز”(7)، و”أنَّ المؤمن بقدر ما يندمج في الدين بقدر ما يتحوّل إلى كائن عاجز، لقد وضع المؤمن الكثير من نفسه في الدين وأسقط ذاته على معبوداته”(8)، و”أصبح المؤمن يعتبر نفسه فاضلاً بقدر ما يقلد ويمثل، ويعود للماضي، وليس بقدر ما يبدع ويتمرد ويستشرف المستقبل، بل بطل الإبداع أن يكون صفة من صفاته”(9).
والحقيقة أن الإنسان المسلم ليس عاجزاً عن ابتكار المعاني الجديدة، ولا يميل إلى المحافظة على ما كان، وليس في الإسلام ما يقيد حركته، أو يحجر عليه، أو يحول دون نهوضه كما يدلل تيزيني وبركات.
إنَّ ثمة عوامل ذاتية وموضوعية تقيد الإنسان المسلم وتحول دون انطلاقه، وممارسته عملية الإبداع، هي ليست جزءاً من الرؤية الإسلامية ولا تستند إليها بقدر ما تتكئ على تقاليد أو رؤى اجتماعية أقحمت في كثير من الأحيان إلى داخل الرؤية الإسلامية. والمسلم باحترامه لحقبة التأسيس الأولى في عصر الرسول محمد (ص) لا ينكفئ إلى الماضي ولا يرتد إلى الوراء، بل يرى لنفسه ما للأوائل من المسلمين وعليه من المسؤولية ما عليهم تجاه الرسالة الإسلامية. وإذا كان ثمة نفر من المسلمين من يتعلّق بأذيال الماضي، فإنَّ ذلك ليس إلاّ حالة عرضية انبثقت عن ضيق أُفق وجهل بالإسلام.
أمّا استدلالات الدكتور تيزيني فهي حصيلة قراءة ناقصة للنصوص الإسلامية، وتدل على قلّة الاطلاع، وجهل واضح بالعلوم والمعارف الإسلامية، فمعرفته سطحية وساذجة، لم تؤخذ عن مصادر الإسلام الأساسية، وإنما هي وليدة تصوراته وآرائه. فلا ندري من أين جاء بتفسيره للآية الكريمة {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}، وكيف فهم منها أنّها تدل دونما لبس على رفض التفكير العقلي المستقل؟! فلو رجع الدكتور تيزيني إلى أي كتاب من كتب التفسير المشهورة لكفاه مؤونة هذا الاستنتاج المغلوط، والذي لا وجود له إلاّ في خيال الدكتور. وسيكتشف أن كلمة (شيء) تعني الدين، وقد وردت في عدة مواضع من القرآن الكريم بهذا المعنى، وعلى هذا الأساس نفهم قيمة النتائج التي توصل إليها، ومنها قوله: “إن اختتام النبوة بشخص محمد ينطوي على التأكيد بأن أسرار البشرية قد استقرت أخيراً في القرآن والحديث المحمدي” ولا ندري ما هو المقصود بأسرار البشرية هذه التي وردت في مطاوي كلماته؟!
أمّا استدلاله بالحديث النبوي فهو الآخر ينطوي على جهل فاضح بأوضح المعارف والعلوم الإسلامية، وهو ما أُشير إليه لاحقاً، وأودّ أن أسجل تعليقين لكاتبين (إسلاميين) على هذا الحديث لكل واحد منهما دلالة خاصة.
الأول: لكاتب تونسي جاء في تعليقه مستنكراً التعلل بهذا الحديث فيقول: “أنه إذا كانت حال القرن الرابع والخامس على ما ورد في الحديث فما عسى تكون حالي أنا ابن القرن الخامس عشر للهجرة؟ كيف يمكن أن أُضيف إلى هذه التجارب الإسلامية الفذّة السابقة تجربتي أنا، وأحسب العزم فيَّ يشدني إلى أمل واسع مديد؟ أين حقي في الإبداع الإسلامي؟ أين دوري في التأسيس الجديد بعد الهزائم المتتالية التي تلاحقت عليَّ؟ وفي النهاية هل أنا مصادر لمجرد أنّي لاحق، ولمجرد أني خلف، لو خُيِّرتُ في الأمر لفضلّت غيره! حاشى أن يكون الإسلام هذا! وحاشى أن يحكم علينا بالخيانة ولمّا نولد. وإنّما للحديث غاية أخرى: أنه يشرِّع لسلطة الصحابة بعد وفاة الرسول أيام الخلاف الشديد الذي تمَّ زمن ولاية وإمارة المؤمنين، ولئن شمل كل الصحابة القرن، فإنه في الواقع يسند غرض أهل السلطة منهم ويشرع لأعمالهم لتظهر على الإصابة والتوفيق..”(10). وبغض النظر عمّا ورد من رؤية قد لا نوافق عليها، فإنه يكفي للتعبير عن عدم تعلّق الإسلاميين بالحديث المشار إليه.
والتعليق الثاني للدكتور عبد العزيز كامل، وهو في معرض رده ادعاءات خصوم الإسلام: “إن الإسلام يدعو إلى التقدم إلى الأسوأ”، كتب يقول: “استندوا – أي خصوم الإسلام – إلى حديث النبي (ص): “إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم..” والمراد من القرن هنا هو الجيل وليس كل الجيل، وإنما الذين أخذوا الدين مباشرة عن الرسول وكوَّنوا معه أول مجتمع في المدينة. والمقصود جماعة تعيش معاً وتتشابه أعمالها في فترة زمنية محددة… وفي مسند أحمد بن حنبل عن أبي جمعة أن رجلاً من الصحابة روى: “تغدينا مع الرسول الله (ص) ومعنا أبو عبيدة بن الجرّاح فقال: يا رسول الله: أحد خير منا، أسلمنا وجاهدنا معك. قال: نعم.. قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني”. فالخيرية هنا سببها الإيمان – على بعد الزمان والمكان. أمّا الأولون فلهم خيرية الصحبة وشقِّ الطريق لكل من جاءوا بعدهم”(11).
وبصدد التعليق على هذا الحديث يجب التنبيه على عدة نقاط تساعد على فهم الحديث.
أولاً: إن وجود حديث ما في كتب الأحاديث لا يعني صحته على الإطلاق، والأحاديث – جميعها – خاضعة للتحقيق والبحث، إن على مستوى البحث في التحقق من صدورها، أو على مستوى فهم دلالتها، ولكل من المستويين علم خاص وعلماء مختّصون بقواعده وأصوله.
ثانياً: إن الحديث معارض بأحاديث كثيرة، ومن هذه الأحاديث ما ذكره الشيخ محمود أبو ريّة في كتابه (أضواء على السنّة المحمدية) حيث جاء فيه: >ويعارضه حديث “مَثَلُ أُمتي مثل المطر لا يُدرى أوله خير أم آخره” وهو حديث حسن، له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة< كما علَّق الشيخ أبو رية على حديث “إن خيركم قرني“. بقوله: “ونحن نقول إنَّ قرن النبي صلوات الله عليه وقع فيه من الأحداث الجسام ما وقع، مثل فتنة عثمان، وما جرت على المسلمين من بلايا، ومثل ما فعل الأمويون في حكمهم من تقويض قاعدة الشورى في الإسلام: .. ومن أجل ذلك نرجح أن الحديث الصحيح الذي يتفق مع روح الرسالة المحمدية هو حديث: “مثل أمتي مثل المطر لا يُدرى أوله خير أم آخره“(12).
وثمة أحاديث أخرى تساعد على ذلك، فعن رسول الله (ص) قوله: “أُمتي أمة مباركة لا يُدرى أولها خير، أو آخرها خير“(13). وقوله لأصحابه: “إنكم أصحابي، وإخواني قوم في آخر الزمان آمنوا ولم يروني، لأحدهم أشد بقية على دينه من خرط القتاد في الليلة الظلماء، أو كالقابض على جمر الغضا، أولئك مصابيح الدجى، ينجِّيهم الله من كل فتنة غبراء مظلمة“(14). وقوله: “متى ألقى إخواني؟ قالوا: ألسنا إخوانك؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني الذين آمنوا بي ولم يروني، أنا إليهم بالأشواق“(15).
ثالثاً: وفضلاً عن ذلك فإنَّ الحديث وارد في باب الفضائل، وفي هذا الباب بالذات يتساهل علماء الحديث في الأسانيد، خلافاً لتشددهم في روايات الأحكام، وهو ما يعرف بقاعدة (التسامح بأدلة السنن).
رابعاً: كما لعبت المؤسسة السياسية دوراً واضحاً في الترويج لبعض الأفكار، منها التأسيس لحكم الصحابة – كل الصحابة – دون النظر إلى الاعتبارات الأخرى، كالعدالة والكفاءة والعلم و.. وذلك بغية تبرير وتسويغ بعض التجاوزات اللا مشروعة التي صدرت عن بعض الصحابة.
وعلى أساس هذه النقاط – سالفة الذكر – تبدو القراءات الناقصة للنصوص الإسلامية عملاً بعيداً كل البعد عن الموضوعية ومنهج البحث العلمي، وتكشف هذه القراءات إمّا جهلاً واضحاً بأوضح المعارف الإسلامية، وإمّا إصراراً متعمداً على تشويه الحقائق على خلفية الخصومة الفكرية أو النفسية أو السياسية مع الإسلام.
وأمّا الدعوى الثانية والمتمثلة بأن الإنسان المسلم بقدر ما يندمج بالدين يتحوّل إلى كائن عاجز، فهي الأخرى لا تستند إلى أساس علمي، وإذا كان يحلو للبعض أن يسند هذا العجز إلى الإيمان بمبدأ القضاء والقدر فإنه – أعني هذا الإسناد – يقوم هو الآخر على الفهم السطحي لمبادئ الإسلام، فلا تعني فكرة القضاء والقدر أن صنع تاريخ الإنسان شأن من شؤون الله تعالى، دون أن يكون للإنسان في صنعه دور، وإنما تعني أن ما يحدث في الكون ليس منعزلاً عن الله، وليس خارجاً عن قدرته وعلمه، لأنَّ كل ما في الكون هو من صنع الله وإليه يرجع. فالإنسان قادر على صناعة تاريخه، ولكن ذلك لا يجري بمعزل عن إرادة الله وعلمه وقدرته، لأن قدرة الإنسان هي عطاء إلهي في نهاية المطاف، وتجري حركة الإنسان وفقاً للسنن التاريخية التي هي من سنن الله في هذا الكون، ولذلك يستنكر القرآن على الإنسان أن يطمع في الاستثناء من هذه السنن كما في قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (16).
فليس للإنسان إلاَّ ما سعى، ولن تقوم عملية تغيير ما إلاَّ على أكتاف الإنسان نفسه. كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(17) ولن يرقى الإنسان إلى درجة الكمال ويحقق التقدم إلاّ على قدر ما يبذله بهذا الصدد. {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}(18)، و{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(19)، ولن يسقط الإنسان إلى درك الانحطاط والتدهور إلاَّ نتيجة عمله وسوء فعله {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(20).
تقوم الرؤية الإسلامية في هذا الصدد على أن الله علَّم الإنسان المسلم أنه هو صانع تاريخه، وأنه إن أراد ذلك فعليه أن يكتشف سنن التاريخ وأن يحترمها وأن يستفيد منها. والقرآن هو أول كتاب أكّد أن الساحة التاريخية لها سنن وضوابط كما يكون هناك سنن وضوابط لكل الساحات الكونية الأخرى، وهو أول كتاب قاوم النظرة العفوية للأحداث التي تقوم على أساس الصدفة، كما قاوم النظرة الاستسلامية التي تقوم على القضاء والقدر(21).
إنّ للحياة قانوناً تجري وفقاً له، ولن تتم عملية التغيير خارج إطار هذا القانون، وليس لها حظ من النجاح ونصيب من الفوز إلاَّ بقدر ما تتفق مع هذا القانون.
وقبل أن نشير إلى بعض المفردات الإسلامية التي تثير في الإنسان المسلم النزوع إلى الإبداع والابتكار، وعوامل تقدم المجتمعات وتأخرها من منظور الإسلام، من المناسب أن نحدد مساحة مفهوم التقدم، وعلاقة هذا المفهوم بالعلم.
“جغرافيا التقدم”:
مثلما يكون لكل علم موضوع تتمايز به العلوم بعضها عن البعض الآخر، ويكون ضابطاً يسوِّغ دخول مسائل ما تحت عنوان ويحول دون دخول مسائل أخرى، كذلك ينبغي أن يكون المفهوم – أي مفهوم – واضحاً تحدد طبيعته ومسائله وعناصره. ولئلا يبقى ضبابياً يفتقر إلى الوضوح، وجب أن تحدد مساحته وما يدخل في جغرافيته وما يخرج عنها.
وما نحن بصدده – أعني مفهوم التقدم – ثمة موضوعات يفضل الفراغ من صحة وصفها بالتقدم، فالحياة العقلية والأدبية والفنية، والأحكام الشرعية، والقضايا الأخلاقية هل تقبل أن توصف بالتقدم على درجة واحدة ومستوى واحد، أم أنها تختلف في ذلك؟ فيقبل بعضها هذا الوصف ومنها ما لا يقبله، مثلها مثل ما يسميه المناطقة (تقابل الملكة وعدمها) كالبصر والعمى، حيث يقولون أن العمى لا يصح أن يوصف به الجدار كوصفك الإنسان به، لأنّ صحة الوصف تتوقف على ما إذا كان من شأن الموصوف البصر والعمى كالإنسان، وأمّا ما ليس من شأنه البصر والعمى فلا يصح أن تصفه بالعمى.
ومن المناسب أن نذكر جواباً لأحد رجال الفكر المعاصرين، هو الدكتور زكي نجيب محمود في معرض حديثه عن نسبة العلوم العقلية والآداب والفنون إلى التقدم، حيث يقول: “.. إذا كان التقدم إلى أعلى وإلى أمام، شرطاً أساسياً للحضارة، كان الجانب العقلي وحده من الإنسان، بما ينتجه من العلوم، هو الذي يتقدم، بمعنى أن تجيء الخطوة التالية من خطوات الطريق تقدماً نحو الهدف الأخير، بالنسبة للخطوة السابقة، فالفيزياء أو الكيمياء، أو البيولوجيا أو علوم النفس والاقتصاد والاجتماع، أو غيرها من فروع العلم، ليست اليوم كما كانت بالأمس، واختلاف يومها عن أمسها هو الاختلاف الذي يتحتم فيه أن تكون حصيلة الأمس أفقر من حصيلة اليوم، وأكثر منها تعرضاً للخطأ. وأمّا الآداب والفنون، فكلمة (التقدم) بالنسبة إليها ليست بذات معنى، فقد لا يستطيع شاعر من شعرائنا اليوم أن يجاري امرؤ القيس، وقد لا يستطيع أحد من رواة الحكايات في يومنا أن يقترب من الذروة الأدبية التي بلغتها ألف ليلة وليلة، لأنّ التقدم لا يكون إلاّ في معرفتنا العلمية، وأمّا ما هو خاص بالوجدان، فلا أظن أن الأم العصرية الثكلى تبكي فقيدها على نحو أكمل من بكاء الأمهات بالأمس، ولا أن يتغنّى عاشق في عشق حبيبته بأكثر مما غنّى قيس في عشق ليلاه”(22).
وبخصوص الدين فما هي النسبة بينه وبين فكرة (التقدم)؟ هل يعقل أن الدين يتقدم ويتطور ويتجدد؟ فهل من الضروري التخلي عن الإيمان بالعالم الغيبي كشرط لبلوغ التقدم؟ وكيف يمكن التخلي عن حقائق إيمانية، ولماذا؟ للإجابة على ذلك ينبغي الالتفات إلى البعد التاريخي في المعتقدات الدينية، وما يمكن أن يطرأ عليها من تغيّرات ترجع إلى بصمات البشرية، وما أضيف إلى المعتقدات الأساسية، بما يسمح لمقولة التقدم بالنفوذ إلى هذا العالم، كون المراجعات النقدية الضرورية للتخلص من التدخلات البشرية أمر يجعلها تدخل في حساب ما يعرف بالتقدم، وعلاوة على ذلك، وبخصوص عالم التشريع الديني، يحسن الالتفات إلى حقيقة الأحكام الشرعية، فثمة أحكام ثابتة، وهي ما بُيِّن في الشريعة بدليل من الأدلة الأربعة: الكتاب، السنّة، الإجماع، العقل، وأحكام ظرفية تختلف باختلاف ظروف المجتمع ومنشأ التطور فيه، وتسمى الأحكام الأولى أحكام شرعية بالأصل، أمّا الثانية فهي قوانين وأنظمة يصح أن تسمى شرعية أيضاً، لأنّها شرعية بالتبع، نظراً لاكتسابها هذه الصفة من الأحكام الشرعية الأصيلة التي اقتضتها. والتقدم لا معنى له بالنسبة إلى القسم الأول، لأنه ثابت لا يقبل التغيير، وهي أحكام إلهية تقتضي طبيعة الدين والإيمان التسليم بها والإذعان لها، وقد يلتزم بها المرء في عصور غابرة بأفضل مما يلتزم بها، في عصور لاحقة، والعكس صحيح أيضاً، وأمّا القسم الثاني فهي من الممكن أن توصف بالتقدم، لأنّها تتماشى ومتطلبات الظروف، وتنسجم مع ثوابت الشريعة، باعتبار أنها جاءت تلبية لحاجات الإنسان المتطورة والمتجددة.
جدير ذكره أن العلوم الإسلامية من فقه وأصول وتفسير وحديث. . ليست عناصر ثابتة، ولا جزءاً غير قابل لإعادة النظر، فهي وإن كانت تنسب إلى الإسلام باعتبار أنّها تنطلق من اعتبارات وعناصر ثابتة في الشريعة الإسلامية، إلاّ أنها في الوقت نفسه تعتبر مجهوداً بشرياً، فالنسبة بينها وبين (التقدم) صحيحة، وهو أمر لا ريب فيه، فقد مرّت هذه العلوم بأدوار يتقدم فيها كل دور على سابقه بحصيلة وافرة من جودة المنهج، وتهذيب الموضوعات، وتنقيح المطالب، ومتانة الأفكار.
أمّا القضايا الأخلاقية، فليس (للتقدم) معنى في حياتنا الأخلاقية، فالحسن يبقى حسناً، والقبيح يظل قبيحاً، وإن تغيّرت الظروف، ولا زال الإنسان يستهجن الكذب ويشمئز من الرذائل، فيما يستحسن الفضائل وتستهويه، في أكثر المجتمعات تحللاً اليوم. أمّا العادات والآداب العامّة، فلعلّ طروّ التغيير عليها ظاهر وجلي.
“العلم والتقدم”:
لقد اكتشف الإنسان قوانين الطبيعة، وسيادة العلاقات المنظمة لهذه القوانين، وأصبح فهمه للعالم معقولاً، وذلك عندما عرف انتظام أحداث وظواهر هذا العالم. وقد أعاد هذا الفهم للإنسان ثقته بنفسه، وقدرته على تحقيق ذاته وتفجير طاقاته.
هذه القفزة النوعية في مسيرة البشرية الحضارية والتي تسارعت على طريق العلم والتكنولوجيا، فرضت فهماً خاصاً لفكرة (التقدم) مختزلاً في (التقدم) العلمي والتكنولوجي. فالتقدم عند (الأوروبي) وأشياعه لا يعني سوى إنجازات العلم وآخر الابتكارات في مجال التكنولوجيا. وإزاء هذه الحقيقة شعر عدد كبير من الباحثين بخطورة التوحيد بين مفهوم التقدم والعلم – التكنولوجيا(23). ودعا ذلك بعض المفكرين في أوروبا إلى تجنيد طاقاتهم لمحاربة هذا الوهم، وإلى القول بأن “الاعتقاد بقدرة العلوم الموضوعية والتقنيات النابعة عنها على حلّ مشكلاتنا، والقول بأن مفتاح جميع القضايا الإنسانية في يد هذه العلوم والتقنيات.. إنَّ هذا الاعتقاد وهم خرافي فتّاك. وقد صُبَّ هذا الاعتقاد بكل غباء ولا مبالاة انتحارية في قالب شعار عصري كاذب يقول: “لا يمكننا وقف التقدم”(24). وتقوم هذه الدعوات على ضرورة إلغاء القطيعة بين العلوم والتقنيات من طرف، وبين تحكّم العقل من طرف آخر، بمعنى تنظيم العلاقة بين الوسائل والقدرات، وضرورة التفكير في أهداف الحياة ومعناها.
إنَّ غياب وتغييب العنصر الإنساني من عملية التقدم، وإلغاء الطابع الأخلاقي لهذه العملية، ساعد على تشويه فكرة (التقدم)، لأنها في الذهن الأوروبي ليست إلاّ تلك القدرات الهائلة والانجازات الكبيرة للعلم والتكنولوجيا، وقد نجم عن هذا الإيمان التقسيم الثلاثي للعالم، دول متقدمة، وثانية نامية، وأخرى دول متخلّفة.
محمد طاهر الحسيني
رئيس مركز ابن إدريس الحلي
للتنمية الفقهية والثقافية
الهوامش :
(1) د. تيزيني، طيب، من التراث إلى الثورة، ج1، ط الثالثة، دار دمشق – دار الجبل، ص124.
(2) د. تيزيني، مرجع سابق، ص128.
(3) د. تيزيني، مرجع سابق، ص173.
(4) د. تيزيني، مرجع سابق، ص171.
(5) د. تيزيني، مرجع سابق، ص144.
(6) د. تيزيني، مرجع سابق، ص171.
(7) د. بركات، حليم، المجتمع العربي المعاصر، ص273، ط الأولى، 1984م، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية.
(8) د. بركات، مرجع سابق، ص273.
(9) د. بركات، مرجع سابق، ص271.
(10) عبد الجليل، المنصف، المنهج الأنثروبولوجي في دراسة مصادر الفكر الإسلامي الأولى، مجلة الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء العربي، العدد 68 – 69 لعام 1989م، ص38.
(11) د. كامل، عبد العزيز، حوار حول الإسلام والتقدم، مجلة العربي الكويتية العدد 271.
(12) أبو رية، محمود، أضراء على السنّة المحمدية، ص245، ط الخامسة، مؤسسة الأعلمي – بيروت.
(13) الهندي، كنز العمال خ 34462.
(14) المجلسي، بحار الأنوار 2/124.
(15) الهندي، كنز العمال ج24583.
(16) سورة البقرة: 214.
(17) سورة الرعد: 11.
(18) سورة المائدة: 66.
(19) سورة الأعراف: 96.
(20) سورة الروم: 41.
(21) الإمام الصدر، محمد باقر، المدرسة القرآنية، ص71، ط دار التعارف – بيروت، بدون تاريخ.
(22) د. محمود، زكي نجيب، ثقافتنا في مواجهة العصر، ص 200 دار الشروق، ط الرابعة، بيروت 1989م.
(23) د. جدعان، فهمي، أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي، ص12، ط الثانية، بيروت 1981م – المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
(24) غارودي، روجيه، ما يعد به الإسلام، ص 114 دار الوثبة – دمشق.
Leave a Reply