الفنون والطبيعة المدنية في الإسلام

لم تكن الطبيعة المدنية في الإسلام، المغايرة كليا للبداوة والطبيعة البدوية، حالة طارئة أو عارضة، كما لم تكن حالة هامشية أو جانبية، ولا حالة جامدة أو ساكنة، وإنما كانت تمثل حالة أصيلة وعميقة، ظهر الإسلام بها، ودافع عنها، وعمل على المحافظة عليها بتشريعات وأحكام شديدة وصارمة، وسعى إلى تجسيدها كيانا ووجودا، لتكون مظهرا للتمدن والعمران الإنساني.

ولفت الانتباه لهذه لطبيعة المدنية في الإسلام وعلاقتها بتطور الفنون والجماليات، يتأكد اليوم في ظل الكارثة الكبرى والمؤسفة التي حصلت في السنوات الأخيرة في بعض البلدان العربية والإسلامية كالعراق وسوريا ومالي وأفغانستان وغيرها، وأدت إلى تعريض العديد من المتاحف والمكتبات والمخطوطات والآثار والمدن التاريخية إلى أكبر عملية نهب وعبث وتخريب وتدمير حصلت في تاريخ الشرق الحديث.

ما حصل في هذه البلاد وبخاصة في العراق وسوريا، مثل كارثة حضارية أصابت العالم بفزع لا يوصف، وكان لها وقع الصدمة الشديدة، حين تعرضت تلك الكنوز التاريخية والفنية الثمينة والنادرة، المتوارثة من حضارات الشرق القديم، إلى تخريب وتدمير لا يمكن وصفه إلا بالعمل البربري والمتوحش، فبعد مئات السنين من المحافظة على هذه الكنوز التي لا تقدر بثمن، إذا بها بين ليلة وضحاها تتحول إلى حطام ورماد، وإذا بالمتاحف وقد غدت منهوبة، والمكتبات مبعثرة، هذا فضلا عن المدن الأثرية التاريخية القديمة التي تعرضت للجريف، كما حصل لمدينة نمرود الآشورية الأثرية الواقعة جنوب شرق الموصل، والتي يعود تاريخها إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، الحدث الذي وصفته منظمة اليونسكو بجريمة حرب، والأمر عينه حصل مع متحف الموصل التاريخي الذي حطمت كنوزه الأثرية، وتكرر الحال مع مكتبة الموصل التاريخية التي أحرقت فيها آلاف من الكتب والمخطوطات النادرة.

الوضع الذي بات يصور وكأن الحضارة تدمر من جديد في بلاد الشرق، ولا يقارن بحال إلا بما حصل مع الاجتياح المغولي لبغداد في النصف الثاني من القرن السابع الهجري، الثالث عشر الميلادي، الذي وصف بالهمجية والبربرية والوحشية، طمست بسببه وتلاشت معالم الحضارة الإسلامية، وبحسب عبارة المؤرخ المصري أستاذ التاريخ الإسلامي الدكتور حسن إبراهيم حسن (1892-1968م) وهو يصور زوال الحضارة الإسلامية في كتابه الشهير (تاريخ الإسلام) قائلا: (لم يحدثنا التاريخ أن حضارة زاهرة كالحضارة الإسلامية في بغداد قد اختفت في مثل هذه السرعة، وأصبحت حاضرة العباسيين طعمة تلتهمها النيران المستعرة، وتغرقها الدماء المهرقة).

والغريب حقا أن البربرية والهمجية التي ظهرت بالأمس من غير المسلمين وخربت ودمرت وعاثت في الأرض فسادا، ظهرت اليوم بصورة أخرى من جماعات تنسب نفسها إلى الإسلام، وما يثير الدهشة أن مثل هذه الهمجية كما تمثلت في داعش وأخواتها يمكن أن تظهر في ساحة المسلمين.

والغريب كذلك أن هذه الجماعات الهمجية، ظهرت في هذه الأزمنة الحديثة التي شهد فيها العالم تحقيق الإنجازات والنجاحات العظيمة والمدهشة في الميادين العلمية والتقنية والاتصالية والطبية وغيرها.

ومن الواضح أن هذا التخريب والتدمير الهمجي والبربري للفنون والجماليات حصل من جماعات لها طبيعة تعارض التمدن وتنافي الطبيعة المدنية للإسلام، ومثلت ارتدادا على هذه الطبيعة وانقلابا عليها، وهي جماعات تغلب عليها القسوة والجفاء، والميل إلى الغلظة والشدة، والتباهي بالقوة، وليس لها تعلق بالفنون ولا بالجماليات.

الأمر الذي يعني أن انبعاث هذه الطبيعة المضادة للطبيعة المدنية، شكل تهديدا فعليا وخطيرا لكل ما له علاقة بالفنون والجماليات في البلدان العربية والإسلامية، ووضعنا أمام ذهنية تصادم بشدة وتقاوم الفنون والجماليات ليس على مستوى الرأي والقول والكلام، وإنما بالتخريب والتدمير البربري والهمجي على طريقة ما حدث مع تماثيل بوذا التاريخية في أفغانستان، ومخطوطات مدينة تمبكتو شمال مالي، إلى جانب الكارثة الكبرى التي حدثت في العراق وسوريا.

هذه الذهنية المضادة للمدنية ارتدت بالعقل الإسلامي إلى الوراء، ونكصت به إلى الخلف، وكأن الإسلام لا يعرف المدنية، ولا يقدر الفنون، ولا مكان فيه للجماليات، وكان لهذه الذهنية دوي واسع، وترك تأثيرا متعاظما ومؤسفا على شريحة كبيرة من جيل الشباب خصوصا، امتد تقريبا إلى معظم البلدان العربية والإسلامية، ووصل إلى البيئات الإسلامية في البلدان الغربية في أوروبا وأمريكا وروسيا.

ما قصدته هو أننا أمام ظاهرة ليست عادية ولا سهلة بكل المقاييس، ولا يمكن الصمت عليها أو التساهل معها أو عدم الاكتراث بها، فهي أخطر ظاهرة ظهرت في ساحة المسلمين، ولا تقارن بأي ظاهرة أخرى عرفها المسلمون قديما وحديثا، فقد تخطت في بربريتها وهمجيتها ووحشيتها جميع الظواهر الأخرى التي يضرب بها المثل في عنفها ووحشيتها.

والعداء الهمجي للفنون والجماليات، لم يكن له مثيل في ساحة المسلمين لا في الأزمنة القديمة ولا في الأزمنة الحديثة، ما يستوجب عدم التغاضي عن هذه الظاهرة في كل حديث يتصل بالفنون والجماليات.

القضية اليوم لم تعد تتحدد في تطوير المعرفة بالفنون والجماليات وتجديدها فكريا وفقهيا فحسب، وإنما لا بد من مواجهة تلك الظاهرة المتوحشة التي أصبحت مصدر بلاء وابتلاء تخطى حدود البشر، وامتد إلى ميادين الفنون والجماليات، والعمل على تفكيك هذه الظاهرة وتقويضها بنية وأسسا.

من جانب آخر، إن تقريب هذه الظاهرة الهمجية إلى مجال الفنون والجماليات، يلفت الانتباه إلى ضرورة إعمال هذه الفنون والجماليات في مواجهة هذه الظاهرة وتشريحها بوصفها ظاهرة قبيحة تعادي الفنون وتخاصم الجماليات، كالصور والرسوم والآثار والمنحوتات والمقامات التاريخية المنسوبة إلى المدنيات والديانات والمذاهب الأخرى، وأصحابها هم أصحاب قلوب لا يفقهون بها، وأصحاب أعين لا يبصرون بها، وأصحاب آذان لا يسمعون بها، مصداقا لقوله تعالى: (لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل وأولئك هم الغافلون)(سورة الأعراف، آية:179).

وبخلاف هذا الموقف وعلى النقيض منه تماما ما رآه الشيخ محمد عبده (1266-1323هـ/1849-1905م) حين زار جزيرة صقيلة الإيطالية سنة 1903م، وتعرف هناك إلى متاحفها وآثارها كالصور والرسومات والتماثيل والنقوش التي استوقفت انتباهه، فأخذ يحكي عن مشاهداته، وكيف أنها مثلت له موضوعا للحديث عن الفنون وما لها من منافع، شارحا رأي الإسلام في الصور والتصوير والرسم وصناعة التماثيل، قائلا عن الآثار التي رآها إن (حفظها هو حفظ للعلم والحقيقة، وشكر لصاحب الصنعة على الإبداع فيها).

الجدير بالذكر أيضا، هو أن انبعاث هذه الظاهرة الموصوفة بالهمجية، يمثل أفضل فرصة لاستعادة الطبيعة المدنية المقابلة لتلك الظاهرة والمعارضة لها، والعمل على تعزيز هذه الطبيعة المدنية وترسيخها ردا على تلك الظاهرة الهمجية وتقويضا لها، وطمسها ومحوها، وإحلال الطبيعة المدنية مكانها، وهذه هي أفضل لحظاتها التاريخية.

الباحث زكي الميلاد

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.


*