
عندما يعيش الإنسان، وقد تقدَّم به العمر، مع الطلائع الفتية الجديدة التي تمثل حيوية المستقبل وامتداده وحركيته، فإنه يشعر بأنه يعيش شبابه من جديد، لأنّ أي جيل يعطي طاقته لجيل جديد، يشعر بأنه يتجدّد بهذا الجيل الذي يمثل بعضاً من فكره، وشيئاً من حيوية تطلعاته إلى الحياة.
نواة الحياة!
موضوع الأسرة هو موضوع الحياة، لأنَّ الله لم يخلق الحياة متناثرةً، فعندما ندرس الظواهر كلّها، فسنجد للكواكب أسرة، وقد يحدثنا بعض العلم عن الشموس كأسرة. ونجد هناك في كلّ ظواهر الطبيعة، أنه ليست هناك ظاهرة وحيدة تنفصل عن الظواهر الأخرى، بل إن الحياة تمثل هذا النوع الأسري من الظّواهر التي تعطي كل واحدة منها للظاهرة الأخرى شيئاً من خصائصها وأسرارها، لتكون الحياة نتاج ذلك كلّه، هذا في الطبيعة المتحركة التي لا تنطق، والجامدة التي تمتدّ في هدوئها، ولكنها تعطي من أسرارها الكثير، فكيف بالإنسان؟
إنّ هناك فرقاً بين الإنسان وبين أيّة ظاهرة من ظواهر الكون، ففي كل ظاهرة من ظواهر الكون نظام يحكمها، بحيث تتحرك من خلاله بطريقة منظمة ليس فيها أي مجال لتتجدّد، وليس فيها أية فرصة للتغيير، فالشّمس وجدت منذ خلقها الله في نظامها الإشراقي، ولم تتغير منذ كانت، وسوف لا تتغير مهما امتدّت.. وهكذا لو درسنا كل الظواهر الطبيعية، من الجبال والبحار والأنهار وما إلى ذلك، لرأينا أن هناك برنامجاً ذاتياً يحكمها، فهي لا تملك نفسها، ولكن النظام الكوني الذي أودعه الله فيها هو الّذي يحكمها.
أما الإنسان، فهو هذا المخلوق المتحرك أبداً، المتغير أبداً، الذي قد يكون صباحاً في حالة معيّنة من عقله وشعوره وعاطفته وحركيته، ثم تأتي لمسة من هنا ونظرة من هناك وحركة من هنالك، فإذا بإنسان الماء يختلف عن إنسان الصّباح مئة في المئة، لأنه المخلوق الذي أُريد له أن يدير الحياة، فلو كان جامداً كما هي الظّواهر الأخرى في جمودها، لما استطاع أن يغير شيئاً، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
فنحن نقرأ في القرآن الكريم: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}.. قال الله للسماوات والأرض والجبال فيما توحي به هذه الآية، لتتحمّل كلّ واحدة منكن مسؤوليتها، لتحمل مسؤولية حركتها وقرارها وكلّ ما يتصل بها في تفاعلها مع الظّواهر الأخرى، ليكون الحساب بحجم المسؤولية، ولكن كل هذه العوالم الكبيرة في حجمها، وقفت مشفقة على نفسها من هول المسؤولية والأمانة، والأمانة هنا تمثّل كلّ حركة الإنسان فيما يمسّ دوره في الكون كله.
أمّا الإنسان، فقال له ربّه: لقد خلقت لك عقلاً يستطيع أن يجدّد وأن يتجدّد، وخلقت لك قلباً يستطيع أن ينفتح على كلّ مجالات الحياة وكلّ أحاسيسها ومشاعرها، وخلقت لك إرادة تستطيع أن تثبت خطواتك في المواقع التي تريد فيها لحياتك أن تقف وأن تمتد، وخلقت لك وسائل من عينيك وأذنيك ولسانك وشفتيك، فما هو رأيك أيّها الإنسان؛ هل تتحمّل مسؤولية دورك؟ إنّ هناك دوراً كبيراً ينتظرك في الحياة، قد تكون مخلوقاً صغيراً في حجم جسدك، ولكنّك المخلوق الذي انطوى فيه العالم الأكبر في حجم عقلك وقلبك وحركيتك في الأرض. وحمل الإنسان المسؤوليّة، ولكن هذا المخلوق الذي يتحرك بشكل حيويّ، والذي يتغير من خلال ما حوله ومن حوله، كان ظلوماً لنفسه، لأنه لم يتقن حمل المسؤولية بدقة، وكان جاهلاً في حجم هذه المسؤوليّة.
المدرسة الأولى
الأسرة هي الدائرة الأولى التي نتعلم فيها الحياة، نتعلّم فيها بداياتها، نحن نعيش في داخل وجودنا الطاقات التي تتهيّأ لتتحرك وتنظّم واقعها، ولكننا نحتاج أن نتعلم كيف نأكل ونشرب وندير حياتنا. والأسرة هي المدرسة الأولى الطبيعية والإنسانية التي لا يتعلّم فيها الإنسان بالكلمات، ولكنه يتعلم من خلال روح هنا وقلب هناك وحضن هناك وانفتاح هنالك، إننا نتعلم الحياة من خلال الأسرة، والإنسان الذي يفقد أسرته، قد يعيش وقتاً طويلاً في أميّة حياته، قبل أن ينطلق ليكون أميّاً أو غير أميّ في القراءة والكتابة. لذلك، كانت مسألة الأسرة تمثّل المحصن الذي تنمو فيه حياتنا نمواً طبيعياً يعيش فيه الإنسان حاجته إلى الحنان والعاطفة غذاءً روحياً كحاجته إلى الطّعام والشّراب غذاءً مادياً.
قضيَّة الأسرة هي قضيّة تفاعل إنسانيّ، يبدأ فيه الإنسان عندما يصير زوجاً وزوجة، فالعلاقة الزوجيَّة هي المرحلة الأولى لبناء الأسرة، وعندما ينطلق الإنسان في المسألة الزوجيَّة، فإنّه يشعر بأنّ هذا الفراغ الذي يعيشه في داخله، وهذا القلق الإنساني الذي يتحرك في عقله وقلبه، لم يعد موجوداً. فنحن نعتبر أنّه على الرّغم من أنّ كلّاً من الرّجل والمرأة مخلوق مستقلّ عن الآخر، إلّا أنّ المعنى الإنساني الذي يمثّله الرجل والمرأة معاً، يتكامل في طبيعة هذه الزوجيّة.
وعندما نأتي إلى الصورة الإسلامية للحياة الزّوجية، فإننا نقرأ في القرآن الكريم: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}، ولاحظوا كلمة “أنفسكم”، فالزوج هو الإنسان في إنسانيّته، يشعر بما يشعر به الآخر، ويعيش ما يعيش له، وينطلق من خلال ما ينطلق فيه، ليست هناك غربة، قد يكون هناك تنوع؛ الزوج الذكر غير الأنثى، ولكن هذا التنوع ينطلق من وحدة.
على هذا الأساس، خلق الله لنا في إنسانيّتنا من داخل هذه الإنسانيّة أزواجاً، لم يجعل الإنسان فرداً أو مخلوقاً مستقلاً يجترّ ذاته في فرديته، ولكنه جعل الإنسان زوجاً يتكامل في زوجيّته، ليعطي كلّ واحد منهما لذاته شيئاً من ذات الآخر.
كيف هي العلاقة؟ ما هي مهمّة هذه الأزواج؟ هل إن مهمتها في علاقاتها الجديدة هي مهمة مادية، حسّية، غرائزية، تتحرك بشيء جامد؟ أو أنّ هناك شيئاً فوق الإحساس المادي؟ هناك شيء روحي يجعل الإنسان روحاً مع الآخر، تماماً كما هو جسد مع الآخر، {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}، وكلمة “السكينة” المراد بها هنا السّكينة الروحية، أن يسكن إنسان لإنسان، أن يطمئن له، أن يرتاح له، أن يشعر بالانتعاش عنده، أن يشعر بأنّ روحه تحتضن روحه، ومشاعره تحتضن مشاعره.
هذا النّوع من الحياة، يمكن أن يبني أسرة تمتدّ في الأولاد، بحيث تتحوَّل إلى حياة جديدة، قوية، منفتحة، منطلقة، عندما يعيش الزوجان المودّة والرحمة، يمكن لهما أن ينتجا جيلاً ينطلق من خلال المودّة والرّحمة، لأننا نعرف ــ ولعلّ للكثيرين تجارب في هذا الموضوع ــ أن الكثيرين من الآباء والأمهات، يعقّدون أولادهم نتيجة التعقيدات الموجودة فيما بينهم، وهناك من الآباء والأمهات من يفتحون روحية أولادهم. لذلك، يريد الإسلام للحياة الزوجية أن تنطلق من المودّة والرحمة، لتكون حياة خاضعة للجانب العاطفي فيما تعطيه المودّة، وللجانب الموضوعي فيما تعطيه الرّحمة. فإذا أمكن للزّوجين أن يجسّدا هذا، أمكن لهما أن ينتجا جيلاً منفتحاً على الآخر في وعيه ورحمته.
نحن قد نشكو في كثير من الحالات من جرائم أطفالنا أو أجيالنا التي تأتي من بعدنا ومن مشاكلهم، ولو درسنا المسألة، لوجدنا أننا المجرمون لأننا هيأناهم لروحية الجريمة وظروفها هنا وهناك، لأنّ أيّ خلاف يحدث بين الزّوج والزّوجة أمام الأولاد سوف يعقّدهم. إن الكثيرين من الآباء والأمّهات قد ينتجون لأولادهم أن يكونوا أزواجاً فاشلين أو زوجات فاشلات، لأن الولد يمتصّ هذه الأجواء من الداخل.
لذلك، المودة والرحمة هما أساس الحياة الزوجية، وعلى من يريد أن يبدأ حياته الزوجية، أن يتعمق في هذين العنصرين، لأنهما العنصران اللّذان يمكن أن تتركز الحياة من خلالهما.
العلاقة السّليمة!
وهناك نقطة أخرى لا بدّ من أن ننفتح فيها على الآباء والأمهات بالنسبة إلى الأولاد، الكثيرون من الآباء والأمّهات يتصوّرون مسألة الأولاد تصوّراً مادياً، ولا ينفذون إلى داخل عقل الولد وإدراكه، ولذلك، قد يحطمون أولادهم عقلياً أو عاطفياً، أو يمنعون أولادهم من الانفتاح والتطوّر. إنّ الأمّ والأب عادةً لا يتصوّران أولادهما إلا أطفالاً، لأن هذا الجانب العاطفي الذي ينطلق مع الحالة الطفوليّة، هو امتداد للعاطفة، بحيث تتصوّر الأم أنّ الولد لا يزال بحاجة إليها، والأب كذلك.
هذا انعكاس إيجابي جيّد، فكلّ منا يحتاج إلى العاطفة وهو صغير، وهو شابّ، وهو شيخ كبير، لكن في كثير من الحالات، تعتبر الأمّ أن ابنتها في حاجة إليها، بحيث إنها لا تستطيع أن تستقلّ بفكرها، وهكذا الأب، يتصوّر ذلك، بحيث لا يسمح لأولاده أن يفكّروا، وهذا النوع من العاطفة الساذجة غير المثقّفة وغير الإنسانية، قد يعطّل قوة الإرادة والعقل عند الولد.
عندما نربي أولادنا على احترام إرادتهم، وعلى حاجتهم لفهم إرادة الآخرين، على احترام تجربتهم، وفكرة أن عليهم أن يحترموا تجربة الآخرين، عندما تكون الأمّ صديقة لابنتها، وعندما يكون الأب صديقاً لأولاده لا حاكماً، عند ذلك، نتفادى الكثير من حالات الصراع بين الجيل القديم والجيل الحديث، عندما ينطلق الأولاد ليشعروا بأن أفضل صدر لأسرارهم هو صدر الأمّ والأب، من خلال أنهما يحترمان أسرار أولادهما، عندما يعيش الولد هذا الإحساس، ويشعر الأب والأمّ بذلك، عند ذلك، يمكن أن ننتج أولاداً أقوياء، مستقلين، معتمدين على أنفسهم، منفتحين على غيرهم، وبذلك تكون الأسرة تجربة لا يعيش فيها أحدنا ضعفه، وإنما يعيش تجربة القوّة من خلال هذا التفاعل بين الأولاد والآباء.
وصيّة للفتيات
وأحبّ أن أركِّز في هذا اللّقاء، وخصوصاً لأجيالنا الجديدة، ولا سيَّما بناتنا اللّواتي يقبلن على مستقبل جديد، في أجواء قد يعشن فيها العاطفة الّتي لا تتماسك، لأنّ الإنسان في شبابه، قد يواجه عاطفته التي لا ترتكز على أساس من القوة في التجربة، لذلك أقول للجميع: لتكن العاطفة حالة إنسانية، من يتجرد عن العاطفة لا يكون إنساناً، لكن أعطوا العاطفة جرعة من العقل، لا تنطلقوا في عاطفة عمياء، لا تثقوا بشيء اسمه الحبّ الأعمى، لأنّ الحبّ الأعمى لا يعطي للحياة بصراً أو نوراً.
لا بدّ من أن يكون الحبّ مفتوح العينين على الإنسان الآخر، من خلال أن نفكّر كيف ننفتح مع الإنسان الآخر على حياتنا، لأن مسألة العلاقة العاطفيّة بين شابّ وفتاة، ليست مجرّد مسألة تنطلق من حالة حسيّة يتحسّسها الشابّ أو الفتاة. لذلك على الفتاة أن تحتاط لنفسها، أن تعقلن عاطفتها.
*محاضرة بمناسبة السنة العالميّة للأسرة بتاريخ 12-5-1993
Leave a Reply