
الإصلاح هو رسالة عاشوراء وحتَّى قيام السّاعة، فعاشوراء هي المحرِّك الأساس لعجلة التَّغيير والبناء الإصلاحي في الأمّة..
هذا بعض ما ذكره سماحة السيّد جعفر محمد حسين فضل الله، في المحاضرة الفكريّة الّتي أقامتها حركة النّاصريّين المستقلّين – المرابطون تحت عنوان “عاشوراء: رسالة الإصلاح في الأمَّة”، بحضور ممثّل دولة الرّئيس د. سليم الحصّ، وممثّل سعادة السفير الإيراني د. مسعود زاده، وممثّلين عن الأحزاب والقوى والشخصيّات الوطنيّة اللّبنانيّة.
استهلّ السيّد جعفر فضل الله كلمته بلمحة تاريخيَّة، تكلّم فيها عن صراع القتل الّذي بدأ تحديداً مع ابني سيّدنا آدم(ع)، قابيل وهابيل، والّذي هو صراع في الحقيقة على المبادئ، وعلى الشّعور بالعجز أمام الاقتراب من المبادئ، وصولاً إلى لجوء العاجز إلى القتل والإقصاء.
ولفت فضل الله إلى أنّنا نستذكر التّاريخ لا لنستغرق فيه، وإنما لنستعيده من أجل قراءته من جديد، وأخذ العبر منه، كي نعيد وضع الأسس والمعايير، ونحاول أن لا نقع فيما وقع فيه أجدادنا.
وأكّد سماحته أنّ الإمام الحسين(ع) هو رمز إسلاميّ، ولا يمكن لشخصيّة كالحسين(ع)، الذي انطلق في ثورته على أساس ما أكّده الله تعالى في القرآن الكريم، وركّزه رسول الله في سنّته، في كلّ ما يتعلّق بعمليّة صناعة الإنسان المؤمن، وبمسؤوليّة الإنسان المؤمن عن الإصلاح في الأمّة، لا يُمكن أن يحجز في إطار مذهبيّ مقابل المذاهب الإسلاميّة الأخرى، بل ولا في الإطار الإسلاميّ مقابل الأديان السماويّة؛ لأنّ القيم الإسلاميّة الّتي أكّدها الإسلام هي قيم إنسانيّة. وأضاف: كلّما كان الإنسان مسلماً أكثر، كان إنساناً أكثر. لذلك، إنّ إسلاميّة الحسين تنفتح على إنسانيّة الحسين، وبالتالي، فإنّه ينفتح على معنى الإنسان في كلّ معاني الحريّة والحقّ والعدالة في الحياة.
ورأى سماحته أنَّ الإمام الحسين أكّد مبدأ شرعيّة الثّورة، والعمل من أجل التّغيير، عندما لا تكون هناك إمكانيّة للإصلاح بغير ذلك، مشيراً إلى أنَّ ثورة الإمام الحسين لم تنطلق من فراغ، بل انطلقت على أساس دراسة واعية وعميقة لكلّ الظّروف الّتي كانت محيطة بالواقع آنذاك، ولكلّ التّراكمات الّتي بدأت تتحوّل فيها الخلافة من راشدة إلى ملك عضوض.
وأشار سماحته إلى أنّ دخول المسلمين في فتنة كبرى بعد اغتيال الخليفة الثّالث، هيّأ الأرضيّة للسلطة الأمويّة لتعمل على إبعاد من يحملون رسالة الحقّ عن التّأثير في السّاحة، عبر الإعلام المأجور، والعمل على إدخال الأمّة في أنفاق المذهبية والطائفية، وإقصاء الأمّة، وتحكّم فئة قليلة من النّاس ـ الحاكم ومن يحيط به من الحاشية ـ بمقدّرات المسلمين، وجعل القانون جزءاً من أهواء الحاكم، والقيام بعمليّات الاغتيال المتنوّعة لرموز الإصلاح في المجتمع الإسلامي، كلّها مفردات وأحداث أدخلت الواقع الإسلامي في حلقة مفرغة… وتابع: ومن هنا، كانت العمليّة الجراحيّة، وهي الإعلان الثوري للإمام الحسين(ع)، والرفض لهذا الواقع الّذي لم يعلنه وحده، إنما كان هناك جملة من الصّحابة وأبناء الصّحابة الكبار الّذين رفضوا البيعة ليزيد؛ وكان لرمزيّة الحسين الّتي كان يحملها من خلال ارتباطه برسول الله (ص) ومحبّته في قلوب المسلمين، وتركيز السّلطة القائمة على أخذ البيعة منه ولو بالقوّة، الدافع الأساس للاستمرار في المواجهة.
وأشار السيد فضل الله إلى أنّ ما صنعه الإمام الحسين(ع)، هو تأكيد للأمّة أنّه عندما يقف الإنسان أمام خيارين: خيار إعدام الإسلام والمبادئ الإسلاميّة كلّها، أو الانتفاض والرّفض حتّى لو أدّى الأمر إلى الاستشهاد، فإنّ الخيار يكون المواجهة مهما كانت التحدّيات والآلام، ورأى أنّ فضل الحسين كان على جميع المسلمين، وأنّ الإصلاح تحرّك في مدى الواقع الإسلامي، ولم يتحرّك في مذهب دون آخر. مشيراً إلى أنّ السلطة السياسية عندما تفتقد المشروعيّة الإسلاميّة على مستوى المذاهب، تعمل ضمن قاعدة “فرّق تسد”، وتعمل على تحريك الفتن في حياة الأمّة، وتحويل الواقع إلى أرض خصبة خصبة للتّناحر.
وقال سماحته إنّه إذا قرأنا التّاريخ بذهنيّة مأزومة، فإننا لن نخرج منه بعبر للحاضر، وسنعيد إنتاج الضَّعف الإسلاميّ والفساد في حياة الأمَّة من جديد، وإنّنا بحاجة إلى قراءته بذهنيّة الحاضر، بكلّ ما أخذناه من خبرةٍ ومن معرفةٍ في تحليل الأحداث وقراءتها.
كما أكّد سماحته في كلمته، أنّنا إذا أردنا أن نبدأ عجلة إصلاحيّة في حياتنا كأمّة، فينبغي أن نتّفق على أنّه نتيجة هذا الواقع المأزوم الّذي عانى منه التّاريخ الإسلامي حتّى الآن، لا بدَّ من أن يكون هناك حركة تثقيف بكيفيّة القراءة الواعية للتّاريخ، ليس فقط في المساجد والحسينيّات، لأنّنا إذا كنّا ننتظر التثقيف من هناك فقط، فقد نعيد إنتاج الأزمة بطريقة أو بأخرى، لأنّ هناك ممّن يتربّعون على المنابر، مَنْ ليسوا واعين لحقيقة المخاطر المحدقة بالأمّة، ولا بالمنهج الصّحيح في التّعاطي مع التّاريخ.
ورأى أنّنا بحاجة إلى نهضة تثقيفيّة علميّة، في الجامعات ومراكز الدّراسات والأبحاث والحلقات الحواريّة، من خلال المنطق العلمي الصّحيح في القراءة والتّحليل، وإلى نهضة تثقيفيّة عمليّة تنبّه الأمّة إلى المخاطر المحدقة، وإلى كيفيّة وزن المواقف قياساً بالقضايا الكُبرى؛ فهذا الّذي حصل في غزّة، وحصل في لبنان، من مواجهةٍ للعدوّ وانتصار عليه، هو تثقيف للأمّة، وإنّ الذي يحصل اليوم على مستوى الصّراع التقني الإسلامي الغربي، في المسألة النووية الإيرانيّة، هو تثقيف للأمّة، لافتاً إلى أنّ مشكلة الغرب اليوم مع العالم الإسلامي هي في الدّماغ العربي والمسلم، والتخوّف من أن يصبح قادراً على امتلاك المقدّرات الكافية لعملية الإنتاج والإبداع والتطوّر، أي أنّنا أمام تنافس حضاريّ، ولذا يعملون على إشغال العالم العربي بالأزمات السنية – الشيعية، والأزمات القومية العربية الفارسية، تماماً كالذي عشناه على مرّ التاريخ.
وأضاف: حتّى الثورات العربيّة، عندما حصلت، دخل الغرب المستكبر على خطّها، وإن السياسات الاستكباريّة الموجودة، والّتي لا تزال تتحكّم بكثير من المفاصل، أرادت أن تلتفّ على إخلاص النّاس للحرّية والإصلاح، وبالتّالي، حاولت أن لا تأخذ مجراها أو مداها، لما يشتمل عليه منطق الثّورة من معاني الإصلاح والحريّة والكرامة والعزّة والسّيادة والقانون والتّلاقي.
ورأى فضل الله أنَّ الواقع الّذي كان يعاني الأزمات في ذاك الوقت، كان وراء الصّرخة الّتي أطلقها الحسين(ع) للمسلمين جميعاً، والّتي أكّدت أنّ الإصلاح لا يمكن أن يتوقّف، ولا يمكن أن يقرّر الإنسان أن يوقفه، مشيراً إلى أنّ الأمّة والدّولة والحزب والعائلة وما إلى ذلك من دوائر، الّتي تعتقد أنّها وصلت إلى المستوى الّتي لا تحتاج معه إلى الإصلاح، تمنح الفساد كلّ الفرصة ليُعشّش فيها، ويبدأ ينخر في عظامها، وسيكتشفون لاحقاً أنهم فوّتوا الكثير من فرص عمليّة الإصلاح.
ودعا سماحته الجميع إلى أخذ الحركة الحسينيّة الإسلاميّة نموذجاً لحركة الإصلاح المستند إلى المبادئ، لا إلى المصالح الضيّقة، وأنّ علينا أن نؤكّد الرّسالة الإصلاحية في كلّ المواقع، وأن لا نؤخذ على حين غرّة، ونقبل بالأمر الواقع والاستئثار بمقدّرات المسلمين، والانتباه من الواقع السياسي والاجتماعي الفاسد الّذي يفرض نفسه حتّى يصل إلى المستوى الرّوحي والإيماني والفكري الإسلامي، على قاعدة أنّنا نحمي الفاسدين لأنّهم من جماعتنا، ونرفض الصّالحين لأنّهم من الجماعات الأخرى، وهذه هي العصبيّة الّتي رفضها رسول الله(ص)؛ فالعصبيّة “التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قومٍ آخرين، وليس من العصبيّة أن يحبّ الرّجل قومه، ولكن من العصبيّة أن يعين قومه على الظّلم“، وعلى الاضطهاد والفساد، وما إلى ذلك.
وخلص سماحته إلى أنّنا عندما نسلّم زمام أمورنا لحكومة ظالمة أو لحكّام ظلمة، لا يمتلكون تحريك المبادئ في حياتهم وفي حياة النّاس، فأعتقد أنّ الملك لديهم سيكون ملكاً عقيماً، وهم لا يمكنهم أن يسلّموا لأصحاب المبادئ وحاملي رسالة الإصلاح أيّ شيء، أو أن يسمحوا لهم بتحريك مشاريع الإصلاح الّتي يمكن أن تؤثّر في مصالحهم ومنافعهم.
السيّد جعفر فضل الله
Leave a Reply