
المنبر الاسلامي: فعالية واعادة نظر:
كل من يتتبع مسيرة المنبر، بوصفه وسيلة من وسائل الاعلام على مختلف ابعاده، يرى بوضوح تطورا في مختلف مراحله، وإن اختلف هذا التطور كثرة وقلة. وهذا التطور يشمل مادة المنبر وادواته واتجاهاته، وذلك امر مفروغ منه، لأن المنبر تحول إلى حاجة من حاجات الأمم الاجتماعية سواء أخذ صورة المذياع أو التلفزة أو الأعواد، وتبعاً لذلك، لا بد من أن يتطور المنبر بتطور الأمم.
والملاحظ أن المنبر الإسلامي، بصورة عامة، والمنبر الحسيني منه، اتصف، وللأسف الشديد، بالبطء في مسيرته التطورية، وإن خطا خطوات في مضماره. إنه بالقياس إلى وسائل الإعلام الاخرى لا يزال يزحف مع وجود إمكانات التطوير.
وقد يقول بعضهم إن ذلك ناتج من كونه فعالية من فعاليات الدين. والدين لا يأخذ الزخم الذي تأخذه الأمور الحياتية الأخرى، كما هو معلوم، ألا ترى أن مفردات المناهج الدراسية في مدارسنا الرسمية قد تطورت، وغدت الحضن الذي يحضن أبناءنا في اخطر مراحل حياتهم؟: هذه المدارس تعد الدروس الدينية في مؤخرة مفرداتها ولا تضع لها علامات محسوبة من المعدل العام، الامر الذي يترك في نفس الطالب انطباعا بعدم اهميتها. قد يكون هذا القول يمثل شيئاً من الواقع، لان المدارس الرسمية تعتقد ان امور الدين مما تعتني به الاسرة، وتحرص على تلقينه لأبنائها، كذلك لا ترى حاجة للتأكيد عليه. كما أن الامور الدينية ان كانت لا تمثل اهتماماً عند بعض الشرائح، فإنها موضع اهتمام شرائح الأمة الباقية. وقد كان المنبر، بعد مسيرته الطويلة، منفذاً من منافذ الدين بالنسبة للجمهور.
وأعود لأقول: إن وسائل الإعلام الاخرى تحولت إلى حاجة للكثيرين وخبزاً يوميا لهم، لأنها حملت همومهم، وعرفت تطلعاتهم، وتصدت لحل مشكلاتهم في حدود ما تملك من قدرات. كما انها ربطت المتلقين بأبعاد المجتمع الأخرى، ومضت ومشت تعالج عندهم ألما، أو تداعب أملاً، وتبتكر لهم أجواء للتفاعل مع مجالات المجتمع الاخرى، وعززت عندهم التصور بانهم جزء من المجتمع تشملهم آلامه وآماله.
ولم يأتِ هذا التطور في وسائل الإعلام من فراغ، بل كان نتيجة توظيف علوم متنوعة ومهارات مختلفة في ميدان الخطاب، فاين مكان المنبر الاسلامي من ذلك؟ مع ان المنبر المسلم يملك ما لا يملكه غيره من انفتاح في قلوب المسلمين أو غير المسلمين ممن يتطلع الى حلول فكرية لمشاكله، ذلك ان المنبر يحمل صوت السماء المؤمل لمعالجة القضايا والمشكلات، فالمسلم يقدسه وغير المسلم يرى فيه معالجة لم تتأثر بمصلحة ولم توصف بنقص.
فلماذا، والحالة هذه، لا نعمل على استخراج كنوز معارفنا الدينية ونذود عنها الدخيل والهزيل؟ ولماذا لا نطور القوالب التي تحملها مع التحدي الملح؟ ان مراكز القرار الاسلامي تتحمل مسؤولية كبرى حيال ذلك امام دينها المسؤولة عن خدمته وأمام مجتمعها المسؤولة عن تربيته، يضاف الى ذلك ان حقل التربية الدينية لا يخص المتدينين فقط، بل يخص الأمة كلها، لأنه أهم وجوهها الحضارية، بوصفه مؤشراً بارزاً على نمط عقليتنا ومصدراً رئيساً من مصادر سلوكنا.
إننا لو عدنا الى تاريخ المنبر الاسلامي، في عصورنا الرائدة، لراينا كيف كان فاعلا في بنائنا، وكيف وفر لنا زادا لا نزال نأكل من عطائه حتى الآن. لقد كنا شيئاً مذكوراً يوم كان الإسلام بمنافذه زادنا قبل أن تحتوشه السلبيات، وتتكاثر في طريقه أدوات التشويه التي شوشت الرؤية، وعملت ولا تزال على تفريغ مفردات الكتاب والسنة من مضمونها الضخم، ووجهتها الى مضامين هزيلة، او بالغت في اعطاء بعض مضامينها ما ليس منها، أو حرفت مداليلها عن معناها الصحيح. كل ذلك يعرفه المختصون في هذه الحقول، وكان لهذه الممارسات كبير الأثر في أبعاد أوساط كبيرة عن سماع الخطاب الديني والوثوق به.
ولولا ان الذهنية الاسلامية بعامة، تشعر بانه لا اجابة عن اسئلتها، في كثير من مناحي الحياة، وفي ما له صلة بالحياة الاخرى، الا عند الفكر الاسلامي، لكانت فجيعتنا كبيرة من حيث انفضاض الناس عن مصادرهم الدينية، وهم يرون كثيراً ممن يحمل الدين يبعد الناس عن الدين بفكره وسلوكه وبتخلفه عن مسايرة الدنيا.
فينبغي، والحالة هذه، اعادة النظر في آليات الخطاب الديني ومنها المنبر، ليؤدي دوره المتوقع منه. وهذا الامر، يكاد يكون محل اجماع المفكرين المسلمين، وهم وان اختلفوا في بعض مشخصاته فانهم يتفقون في اصله.
لقد كان ما ذكرته، مما يدور حول المنبر، من الخواطر التي لا تفارقني، فكنت اطرح الفكرة مع كثير من ذوي الشأن، فاسمع منهم المتحمس للتحرك في هذا الموضوع، واسمع الذي يقابل ذلك بشيء من الفتور الناتج من تصوره بأن للمنبر دوراً محدودا على مستوى العواطف الدينية عند فئة قليلة.
عناوين رؤية السيد الشهيد:
المضمون الثقافي:
وعندما يسر لنا العلم وسائل إيصال الكلمة إلى أكبر عدد ممكن، على القرب والبعد، اتسع مجال نقل الافكار عبر التلفاز والمذياع والمسجل، بدأت النظرة الى المنبر تتغير، وادرك كثير من المعنيين بهذه الامور ان المنبر وسيلة فاعلة إن استطعنا أن نحسن الاستفادة منها، بامتلاك ادواتها وما يرتبط بها، واهم ما يرتبط بها الخطيب المناسب، بل هو المنبر كله.
وفي وسط هذه الأجواء جرى الحديث في مجلس الشهيد الصدر، طاب ثراه، فرأيت من اهتمامه واصغائه لما يدور حول ذلك ما لم أره عند غيره، وسمعت منه تأكيداً على ذلك دفعني الى معاودة الموضوع كلما دخلت عليه. ولكثرة ما عاودنا طرق الموضوع أشبعت جميع جوانبه تقريبا بالبحث، وقد أشرت إلى ذلك إشارة مقتضبة في الكتيب الذي اصدرته في العام الماضي: «تجاربي مع المنبر»، ولكن سأتناول هنا ابرز ما دار الحديث حوله، وما بقي في ذاكرتي مما طرحه السيد، طاب ثراه، لقد كانت أهم الافكار التي في ذهنه تتلخص في عناوين رئيسية منها، بصورة مجملة:
1- تقعيد المنبر، بمعنى ان يصدر المنبر عن قواعد وعلم اذا تناول اي مفردة من مفردات خطابه، فيكون مثله مثل طالب العلم الفاضل، اذا عالج مفردة في موضوع شرعي عالجها بمنهجية، مثلا اذا عالج مسالة فقهية نظر الى دليلها، فاذا كان من غير القرآن الكريم يبدأ بتوثيق الدليل من حيث السند، ثم يبدأ بتقييم الرواية وتحقيقها، من حيث عدم الزيادة والنقص والتحريف، ثم ينتقل إلى ألفاظها، ويسأل: هل هي مما لا يحتمل إلا معنى واحداً، أو يحتمل اكثر من معنى؟ فيصنفها الى نص او ظاهر او مؤول، ثم يجمع الروايات حول الموضوع ليرى مدى تأثيرها في دلالات الرواية على المعنى المراد او الحكم المراد، ثم يبحث عما يعارضها ويعمل فيها وسائل التعادل والترجيح الخ.. وبالاختصار أن يسلك الخطيب مسلك الفقيه في معالجة ما يطرحه على المنبر من عقيدة او احكام.
2- اثراء مادة المنبر، بمعنى تنويع مضامين المنبر والتماس المواد المشوقة للسامع التي يجب ان تأخذ بعين الاعتبار الاختلاف في مستوى المستمعين ومداركهم في الوقت نفسه والظروف المحيطة بالمنبر، وبذلك يحافظ على رعيل المنبر ورواده ويعمل على زيادة عددهم من الناحية الكمية، كما يعمل على الارتفاع بمستواهم تدريجيا، وذلك في قوالب تتناغم مع امزجتهم، لانهم من شرائح غير متجانسة من كافة النواحي غالبا، وكل ذلك في إطار أجوائنا العقدية والشرعية، فهي الهدف الأساسي.
3- العمل على الارتفاع بالمنبر حتى يصل الى مستوى مرجع متجول يرجع اليه الجمهور للتعرف الى كثير مما يهمه، من قريب او بعيد، من حكم شرعي او عقيدة. وبتعبير آخر، الطموح الى جعل المنبر مكتبة متنقلة ترتقي بمقدار ما تؤدي المطلوب للجمهور، على نحو موسوعي لا يصل الى حدود التخصص. واذا قدر له ذلك فهو فتح في آفاقنا المعرفية. وبذلك يكون المنبر مؤهلا للخوض في الافكار العامة، وليس دخيلا عليها، مع لفت النظر الى انه فعلا سائر إلى هذه المرتبة رغم الثغرات التي تحوطه، وكل ذلك لالتفاف الناس حوله بدافع من العقيدة وطلب الاجر.
وهذه الامور الثلاثة التي اجملتها فيها تفاصيل كثيرة وشعب دار حولها كثير من النقاش، وخصوصا من ناحية ان ما هو قائم بالفعل يمكن تهذيبه، او ما هو مؤمل وممكن في حدود الامكانات المتاحة، لا ارى ضرورة لذكره هنا وانما أردت مجرد الاشارة اليه.
الخطيب:
ذلك ما له صلة بالمضمون الثقافي للمنبر، اما الجانب المتحرك في افق المنبر، وهو الخطيب، فانه، وان كان ليس بعيداً عن الذهن عند بحث المضمون، كان السيد يرى انه العنصر المؤثر فيه والروح الحقيقية له. ولهذا استأثر بحصة لا تقل عن حصة مضمون المنبر في الحديث مع السيد الصدر(رض)، من حيث ما يجب ان يحمله من مؤهلات وما يتصف به من صفات. وكان أهم ما انتهت إليه الآراء ما يأتي:
1- ان يكون رعيل الخطباء قسما من الحوزة لا قسيما لها، بمعنى ان يسير على ما يسير عليه طلاب الحوزة من خطوات في المنهج والمضمون، وفي سلوكه وهديه والتزامه بأجواء الحوزة.
اذا قدر له ان يتصف بذلك، فستحصل له أمور أهمها: الثقة بنفسه وانه بمستوى اداء الرسالة علميا وستتغير النظرة اليه عند الجمهور، من كونه مجرد ذاكر يمارس موضوعاً يتصل بالعواطف عند محبي آل البيت (ع) الى كونه من اهل العلم الذين يقومون بما يقوم به ممثلو العلماء في البلدان. غاية ما في الامر ان الممثلين ثابتون في مكان محدد وهؤلاء متجولون، وبذلك سيكون الخطباء مشمولين بكل ما للحوزة من حقوق ورعاية وغطاء مادي من الحقوق الشرعية حتى لا يتعرضوا للضياع في ايام العجز والشيخوخة، إلى غير ذلك من مكاسب.
2- يتعين على الخطيب، اضافة الى ترسمه المنهج الحوزوي، أن يحقق إتقان الآليات ذات العلاقة بفن الخطابة الحسينية، لان ذلك من اول شروط المنبر الناجح، على ان تكون هذه الامور مسايرة للتطور اداء ومضمونا، ومنسجمة مع ضوابطنا الشرعية والاخلاقية، وحاملة لسمات عقيدتنا في خطوطها العامة، ومتصفة بالبعد عن المبالغات والتهويلات، الامر الذي يجعلها مستساغة، وبالاختصار ان تكون وفق المواصفات السليمة.
إن هذه الاليات المذكورة هي العنصر الفاعل في جذب الجمهور إلى المنبر، ومن ثم مخاطبته وفق المستويات التي يخضع لها، من حيث الزمان والمكان والهوية وغير ذلك مما يحدد آفاق المستمعين. وينبغي الا يحرص الخطيب على مجرد إرضاء المستمعين بالنزول الى مستواهم وما يتوقون اليه، خصوصا اذا كان يؤدي الى الهبوط بمستوياتهم، لا بد من محاولة الارتقاء بهم تدريجا وبهدوء.
إن بعض تلك الممارسات حتى لو كانت سائغة شرعا، لكنها اذا كانت تودي الى ما يهبط بجمهورنا، ينبغي الابتعاد عنها، ان عملية الانتقاء هنا ضرورية ينبغي ان ترضي مزاجنا الديني، وإن كانت لا ترضي الخطيب او الجمهور، ذلك أن الخطيب حامل رسالة، والرسالة تبني وإن كانت عملية البناء متعبة تكلف جهداً ومعاناة.
3- انطلاقاً من ذلك اصبح لا بد من عملية انتقاء لمن يمارس الخطابة، بمعنى انه ينبغي الا يكون الباب مفتوحا أمام من يريد سلوك هذا الطريق ما لم يحمل المؤهلات، ولو بالحد الادنى، وليس من المحتم دخوله هذا السلك، بل يمكن تيسير السبيل امامه الى اداء رسالة عن طريق الحوزة التي لا ضرورة فيها للشروط المطلوبة من الخطيب مما سنشير إليه.
إننا بذلك نحقق للمنبر ما هو ضروري له ولطالب اداء الرسالة ما يحفظ له مكانته ولا يعرضه للضياع لفقدان الشروط المنبرية المفروض ان تتوافر لديه. كما نرى كثيرا ممن يمارس الخطابة ولا تتوافر له الظروف المطلوبة، فيكون عرضة للضياع واهدار عمره في ما لا يعود عليه بالمطلوب.
ولعل ابرز ما قد يحتاجه الخطيب هو:
أ- حسن المظهر ووجاهته في حدود معقولة، وينبغي الا يتصف الخطيب بما يغاير ذلك.
ب- أن يكون ممن رزقه اللّه تعالى صوتا جيدا مرنا وقابلا للتكيف مع الحالات المطلوبة في الاداء، لأن حاجته لذلك شديدة، بحكم كون الصوت الجيد عامل جذب مهما للجمهور.
ج- أن يكون ذا حافظة سليمة لخزن المعلومات وليس من المبتلين بعكس ذلك.
د- ان تكون عنده موهبة حسن الاختيار، سواء كانت ذاتية ام مكتسبة، مع قدرة على التحرك بهذه الموهبة في المواقف المطلوبة.
هـ- كونه من ذوي السمعة الحسنة، ومن دون ذلك يفقد التأثير ولا يعتنى بقوله.
و- أن يكون قد اجتاز مدة من التدريب والتلمذة تحقق له النضج في الخطابة والتحلي بخواص المنبر التي يكتسبها من مجموعة، وليس من واحد، لأنها قد لا تكون مجموعة عند واحد فيأخذ من كل منهم ما هو متميز به.
هذا أقل ما ينبغي أن يكون عند الخطيب، ليكون مؤهلا للقبول في ما يمارسه من عمل المنبر وحتى نكون قد اخترنا للمنبر من هو مؤهل ومهيأ لأداء هذه الرسالة، والا فليس من الصحيح ان نضعه في غير مكانه فنسيء له من ناحية ولرسالته من ناحية اخرى.
كيفية تجسيد الرؤية:
هذه هي ابرز الامور التي بقيت في ذاكرتي مما دار حوله الحديث مع السيد الصدر (قدس سره). بقي ان اذكر ما تم التداول حوله في كيفية تجسيد ما انتهينا اليه نظريا، وان كانت هذه مسالة تحتاج لجهد، ولكنها غير متعذرة، ولقد استقر الرأي على الخطوات الاتية:
1- ان يتم العمل لذلك بهدوء، ومن دون واجهات بارزة، وانما بعمل بسيط وفي خطوات حذرة، ومن دون استفزاز للآخرين، مع التبين بعد كل خطوة في مدى صوابها قبل البدء بالخطوة الثانية، وذلك تحاشيا لمضاعفات. وهذه الأمور استفدتها قبل ذلك من تجربة «جمعية منتدى النشر العلمية» في النجف الاشرف عند البدء بتأسيس معهد الخطابة الذي انتهى الى الاخفاق، فلا ينبغي ان تتكرر تلك التجربة ما دام معظم العوامل لا يزال قائما بالفعل.
2- ان يتم اختيار مجموعة، من المأمولين، يتراوح عددها بين الخمسة والعشرة اشخاص تكون خميرة التجربة والأنموذج الممثل لما يراد الحصول عليه من المنبر ليطرح في الساحة، واذا قدر له النجاح فسيخدم فكرة ايجاد مؤسسة للخطابة.
3- لا بد من تحضير الوسائل اللازمة من مفردات المنهجين الحوزوي والخطابي في حدود القدرات المتاحة حتى يبدأ العمل فوراً، ونكسب بذلك الوقت لئلا يبرد الحماس حول الموضوع.
4- مما يكلف به هؤلاء الطلاب، وفي اثناء الدراسة، تأليف مواضيع خطابية متنوعة ويسايرهم الاستاذ في خطواتهم حول ذلك، ثم يكلفون بقراءتها في مجلس يتم فيه حضور زملائهم، ويتم تبادل الآراء حول تلك المواضيع، ويستفاد من ملاحظات الحضور، ويكون ذلك تدريبا ميدانيا يعمل على تأهيل الخطيب وتوفير التسديد له مما قد يتعرض له من تعثر في طريقه.
5- يفترض وجود حد ادنى لا بد من ان يصل اليه الخطيب قبل ترشيحه لممارسة رسالته، ويترك الباقي لما يحمله هومن كفاءة وقابلية في ساحة المنبر.
6 -في اثناء ذلك، يتم ترويض اذهان الجمهور لقبوله عن طريق التنويه به والاشادة بمؤهلاته واعلان اجتيازه للامتحان، فيما اذا اجتازه بنجاح، ويتم هذا التنويه به في الداخل والخارج بوساطة المعنيين بهذه الشؤون في كل بلدة تحتاج إلى خطيب في ذكرى الحسين (ع).
7- اذا تم له اجتياز العقبات ينصرف الى العمل، والا لا بد من العمل على توجيهه لساحة اخرى كما اسلفنا، حيث تتعدد ساحات الحوزة من تخصص او كتابة او تدريس وهكذا.
8- ليس من الضروري ان تكون فعاليات الدراسة هذه في محل معين خاص، بل تتم على نمط الدراسة الحوزوية الحرة في مسجد او بيت او مؤسسة، الى ان يتاح لنا الوصول بعد ذلك الى مدرسة متخصصة.
9- في ما يخص المنهجين المذكورين من الدراسة الحوزوية، والدراسة الخطابية فقد تكفل السيد (قدس سره) بالمنهج الأول عن طريق توفير المدرسين والكتب. أما المنهج الثاني فقد اتفقنا على ان اقوم انا، مع اثنين من زملائي اللذين اختارهما، بتهيئة المنهج الثاني. نقوم بذلك معا ونضع ما نملكه من خبرة بين يدي الشريحة المذكورة من الطلاب.
تلك هي الخطوط العامة لفكرة النهوض بالمنبر وخدمة خطباء المنبر، ليكونوا منافذ الى المعارف الاسلامية وميادين أهل البيت، وليحققوا التلاحم بين الامة وقادتها الروحيين، كما هو الحال عند بعض الشعوب الاسلامية التي يقودها الفكر الاسلامي بوساطة المبلغين ودورهم المهم في الثقافة الاسلامية العامة.
الروح الموسوعية عند السيد الشهيد:
بعد ذلك، لا تفوتني الاشارة إلى أمر مهم، الا وهو هذه الروح الموسوعية عند الشهيد الصدر التي لم تشغلها مشاكل تأسيس حوزة علمية رائدة، ولا اعباء مرجعية بدأت واخذت تنمو وتتسع، ولا المواجهة مع تيارات وافدة ونظم عاتية فتحت عينيها واخذت تتحسس الخطر من فكر مسلم يأخذ طريقه للانتشار، ويعمل على غير المألوف والتقليدي في المناهج، ما وقفت عند ذلك بل امتدت لتحمل هموم المنبر بوصفه جزءا مهما من الجانب الاسلامي الاعلامي.
لقد كان يلح للبدء بالعمل في اقرب وقت، وكانه يحس احساسا داخليا بقلة مكثه في هذه الحياة، وان ضمن ذلك ببقاء فكره حيا.
وعندما اتفقنا على مهلة قصيرة لإعداد المقدمات لذلك كان يوصي بتقصير المدة والمسارعة لذلك.
وبدأت بالتوجه لذلك والاستفادة من تجارب المنبر في بلدان اخرى واستعراض السلبيات والايجابيات المتصورة.
وحدث أثناء ذلك ما يوجب خروجي من العراق لبعض الامور الى سورية بأمل العودة قريبا، وتصاعدت الأحداث واعتقل السيد ولم يخرج من المعتقل إلا إلى مثواه الأخير في جدث ضم جسده، وبقيت روحه تتحدى الفناء وتسرح أفكاراً مضيئة في دروب السائرين للإصلاح، وطويت تلك الآمال وان لم تمت.
الامل بمرجعياتنا ولنا امل كبير بمرجعياتنا العتيدة، سدد اللّه خطاها، في ان يكون المنبر من همومها ومن بعض ما تعمل على انجازه منمهمات، ولا احسبها غافلة عما للمنبر من مكانة مهمة.
وما من جهة هناك غير المرجعية متعينة للقيام بهذا العمل، وذلك لأسباب كثيرة استعرضتها في كتابي: «تجاربي مع المنبر». وانا عندما اقترح ذلك لا اريد ان اعلم المرجعية تكليفها، وهيان شاء اللّه ممن لا يقصر في عمل كل ما يخدم الدين والعقيدة، ولكنني في قلب الساحة واعيش اجواء المنبر وادركمدى تاثيره على القاعدة العريضة من الناس، ولا ينبغي لمثل هذه الوسيلة المهمة ان تهمل. ولعلنا نسال عنها بين يدياللّه تعالى يوم نلقاه باعتباره مما يقرب للطاعة ويبعد عن المعصية، وذلك من صميم ما يتعين على الائمة القيام به.
فروض الوفاء للريادة الملهمة وفي ختام هذه الالمامة البسيطة بموضوع هموم المنبر عند الشهيد الصدر، لا بد من الاشارة الى ان هذه المسالة ليستالفكرة الرائدة الوحيدة في النهوض بالمنبر، فلقد كانت الريادة في مجمل افكاره التي كانت رائدة في البعد الاجتماعي،والبعد الاقتصادي، والبعد الاخلاقي، والبعد التاريخي الخ…، ولا تعوزنا البرهنة على ذلك فهي قائمة في ما ترك منكتب قيمة غطت هذه الابعاد.
اما ما كان يطرقه في احاديثه ومداولاته فهو مما لا يقل اهمية عما كتبه، يعرف ذلك كل من اتيح له ان يعايشه ويستمع لاحاديثه.
بقي ان اقول: ان في ذمتنا نحن الذين عاصرناه وتفاعلنا مع افكاره امانة، وهي ان ننقل الصورة المشرقة التي رسمها في أذهاننا معايشة وفكرا، ننقلها لمن لم يره ولم يعايشه، وهم ايضا بدورهم يتعين عليهم ذلك ليبقى الصدر شعلة متوهجة في الافكار. ان ذلك اقل فروض الوفاء للريادة الملهمة.
رحم اللّه الشهيد محمد باقر الصدر برحمته الواسعة، وجزاه بقدر ما اتسع له قلبه الكبير من هموم، وبقدر ما حمله فكره من عطاء وكرم، وما لم يبتعد في مسيرته عن خطوط دماء الانبياء وابناء الانبياء. والحمد للّه اولا وأخيراً.
عميد المنبر الحسيني الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
المصدر: مجلة المنهاج العدد السابع عشر
Leave a Reply