
أختاه..
كنت قد تحدثت في أحد الأعداد السابقة عن الثقافة والعلم واختلاف مفهوميهما، وموقف الإسلام من كل منهما، وقد افترقنا آنذاك على أن نعود فنلتقي ثانية لنتابع ما وقفنا عنده من بيان خطورة غزو الثقافة الأجنبية لبلادنا الإسلامية واستيلائها على مفاهيمنا ومثلنا العريقة، وتخديرها لأفكارنا بأفيونها الاستعماري البغيض، وتشويهها لصفحة نتاجنا الإسلامي الذي هو مرآة حضارتنا العميقة، ولنأخذ على ذلك مثلاً الرسم فهو في حد ذاته شيء حسن وحسن جداً، وقد خلد وخلد كثيراً ممن نبغوا فيه، وأصبح عنواناً لحضارات مختلفة توسعت في الرسم بشتى أنواعه وأشكاله من نحت وتمثيل وتصوير، ولكنه في الوقت ذاته يطبع متتبعيه وهواته بطابعه الخاص؛ لأنه مرتبط بوجهة النظر العامة عن الحياة والكون والمفاهيم المأثورة عنهما، فإذا أخذت خطوطه وقواعده عن فنان يؤمن بوجهة النظر المادية عن الحياة والكون ومدلولاتها الأخلاقية والاجتماعية أصبحت الصورة مادية متحللة من القيم الروحية، وأما إذا بني الفن على وجهة النظر الصحيحة للحياة والكون أصبح ناطقاً معبراً عن الإنسانية السامية، ومشيراً إلى المفاهيم الحكيمة العالية: وكذلك الأدب بشعره ونثره، وهو الشيء الذي لا غنى لنا عنه لتنوير أفكارنا وتهذيبنا وإبراز مشاعرنا وتنسيقها قد أصبح عند بعض الأدباء المتطرفين سلعة رخيصة تأخذ عن الأدب الغربي مباذله، وتكشفه، ومن الأدب الشرقي ماديته وانحرافه وكفره بالقيم والأخلاق الفاضلة الخيرة، وقد استحال بعض أدبائنا مع كل الأسف إلى مترجمين وناشرين لا أكثر ولا أقل، أفكارهم غريبة عنهم بعيدة عن واقعهم ومجتمعهم تستهويهم الصيحة، وتطربهم نغمة، وتسكرهم رشفة، فيغنون بأمجاد الأعداء، وهم في غفلة ساهون، ويهللون للأفكار السامة، وهم لا يكادون يفقهون منها شيئاً، وقد تشبعوا بالثقافة الأجنبية التي أدخلها الاستعمار إلى بلداننا منذ عهد بعيد، وهي هي التي انحرفت بجيلنا الناشئ ذات اليمين وذات اليسار، وحرصت على تشويه إنتاجاتنا الأدبية بكل أشكالها ونواحيها، ومن جراء هذا الفهم الخاطئ للثقافة أو هذه الثقافة الدخيلة انتشر في ربوعنا مفهوم استعماري عدائي موجه نحونا نحن بنات الإسلام بالذات فشوهوا علينا دعوتنا لطلب العلم واستجابتنا لدعوة الرسول إذ جعلوا من التعلم والسفور توأمان لا يفترقان.
فكأنما التعليم ليس ببمكن *** إلا إذا برزت بغير غطاء
في الوقت الذي يكون ذلك سهلاً ويسراً إذا طبق النظام الإسلامي، وتطهرت معاهدنا من النفوذ الأجنبي، وارتفع شبابنا عن وهدة الجنس، وتسامى عن حضيض الرذيلة، وإذا عمت النظرة الخيرة، وشاعت الفكرة الإنسانية الفاضلة بين المجتمع الإسلامي، وإذا اكتسبت فتياتنا شيئاً من صمود أمهاتهن المسلمات وراجعن عهودهن الزاهرات أيام كن يعقدن النوادي الأدبية، ويفحمن أعاظم الرجال من وراء حجاب، أيام كن يشهدن الحروب الدامية، وهي كالزهرة في الأكمام، لم يعقهن الخمار عن خوض الميادين الأدبية، ولم يقعد بهن الخدر عن الانطباع بطابع الثقافة الإسلامية الصادقة، وما أملي أبيات وردت عن لسان شاعرة نابغة إذ تقول:
بيد العفاف أصون عز حجابي *** ويعصمني السمو على أترابي
وبفكرة وقادة وقريحة *** نقادة قد كملت آدابي
ما عاقني خجلي عن العليا ولا *** سدل الخمار بلمتي ونقابي
الشهيدة بنت الهدى
مجلة الأضواء، السنة الأولى، العددان الثامن والتاسع
Leave a Reply